الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الناس فى بلادى

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

في ابتدائي.. عندما تصوَّفْتُ.. طلبت من مولانا سبحة.. قال لي: "من عينيَّ الاتنين". في ثانوي.. عندما تسلَّفْتُ.. ولبستُ جلابية مأزعرة.. طلبت من خالي عباية.. قال لي: "من عينيَّ". في الجامعة.. عندما تثورجت.. وانتفخَت أَوْداجي.. طلبتُ من المناضل سامي شالًا فلسطينيًّا.. قال لي: "عينيَّ".

بعدما تخرجتُ واشتغلتُ.. كنت أمرُّ على بيَّاع السبح.. وأدخل محل الملابس والعبايات.. وأقف كل جمعة أمام فرشة بياع الشال.. لكن لم يخطر ببالي الشراء.. فلم تعد هذه الأشياء حلم حياتي.

عندما سُرِقَ مني موبايل نوكيا 6210 كانت ستأتيني جلطة.. أدركتُ أنها نهاية العالم.. كمية الغمِّ التي حاصرَتْني تكفي لتسويد العالم.. لم أكن أتخيَّل يومها أني سأخرج من هذه الحالة.. لو لم يُسرَقْ مني لكان الآن في الدولاب بجوار الطربوش.

كلنا نهرب من الموت.. نتشاءم منه.. نكره سيرته.. ثم نلوذ به بعد عمل شاق طويل.. نطلبه بإلحاح.. نستسلم له.. نفرد أجسامنا.. نسترخي.. نغمض أعيننا ونحن مستمتعون.. ونغطُّ في نوم عميق.

كدتُ أُجَنُّ وأنا أكلم صديقي الأنتيم.. سألني: ما لك؟.. قلت النسيان قاتله الله.. قال: عادي كلنا ننسى.. قلت بعصبية: ليس لهذه الدرجة.. قال: وهل العصبية ستجعلك تتذكر؟ قلت: العصبية ردُّ فعل لا وسيلة.. قال: عرِّفني ما الذي تبحث عنه.. وسأحاول أن أساعدك. قلت: أبحث عن الموبايل. انفجر صديقي في الضحك.. حتى سقط موبايله من يده.. سقط قبل أن أسأله عن اسمه.

لم أكن أعرف إطلاقًا أن هناك من يعشق الغَمَّ.. يُشبِعُ به رغباتِه النفسية.. لم أكن أعرف قطُّ أن هناك من يقاتل لعبوديته باستبسال أشد من طالب حريته.. لم أكن أعرف أبدًا أن هناك من يتغذى على التهزيء.. ويختنق من الاحترام.. لم أكن أتخيل نهائيًّا أن التشفِّي في أذى الغير أمتع من نفع النفس.. ليتني "لم أكن أعرف" إلى الأبد.

سنين طويلة قضيتها في دوامة الحياة.. أصدقاء العمر لم أزرْهم من عشرين سنة.. عاتبتُ نفسي بشدة.. قررتُ أن أتغير.. ذهبت إلى منزل صديقي الأول.. كانت المفاجأة طافحةً على وجهه.. مفاجأة الاستغراب.. "إيه اللي فكَّرك بيَّ؟!".. بعد أن نزلت من عنده.. تنبهتُ إلى نظراته ونبراته.. كيف تَصوَّرَ أني جئت لأُثبِتَ أني أصبحت أفضل منه؟! تستغربون من كلامي؟ أبو صديقي الثاني قالها صريحة.. وبأداء بصري صوتي جسدي عجيب: ما انت نسيتنا.. اللي عطاك يعطينا.. ألم أقل لكم قررتُ أن أتغير؟!

كل مرة.. كل مرة.. يستقبلني سائقو التاكسي.. وأنا خارج من محطة المترو.. عملي بجوار المحطة.. يبدو أن العينين والشعر ليست معالم كافية للإنسان.. الغلطة غلطتي.. فأنا كل مرة.. كل مرة.. أنسى نزع الكمامة بعد خروجي من المحطة.

الكمامة كالنقاب.. تبرز العينين.. تجعلهما مغريتين.. زميلة في الجامعة المفتوحة مطلقة.. الكل يعرف أنها دون العادية.. لبست نقابًا.. احلوَّت في نظرهم.. وأخيرًا حضرنا حفل زواجها بأحد الزملاء.. تعلموا الدرس.. لا تنبهر برؤية أي واحدة لابسة كمامة.. انتظر حتى تنزعها.. واستقبل المفاجأة.

شاب مثل الحائط وقف يترنح في الأتوبيس.. يترنح.. فجأة سقط سقطة مدوية.. اندفع عليه الركاب.. "مية.. كولونيا.. بصل".. تقدم أحدهم.. خبير في الإسعافات الأولية.. أخيرًا أفاق.. "أنا راجع بلدنا.. بقالي تلت أيام بادوَّر على شغل.. ما أكلتش من يومين".. الجميع أخرج ما في جيبه.. وكنت أولهم.. نزل محطة رمسيس.. ليس معه موبايل.. ليتني أعطيتُه رقمي.. بعد يومين قال لي راكب "يا حاج.. الواد اللي أغمى عليه فاكره؟".. "طبعًا ما له؟".. "شفته امبارح.. كان في أتوبيس المنيب.. وعمل نفس النمرة". يستحق الفلوس.. لأنه يؤدِّيها باحتراف.

 "أبو حيان التوحيدي دماغه عالية.. ليتك تقرأ له يا صديقي".. "يا بختك عندك وقت تقرأ".. "تعرف لماذا عندي وقت لأقرأ؟.. لأني أنهي عملي وأعود لبيتي.. لست مرتبطًا بثلاثة أماكن.. لا معد برامج.. ولا مدير شفت.. ولا ديسك.. اطمئن صديقي.. سأدعو لك أن تجد وقتًا لتقرأ مثلي".

"أنت اللي غلطان".. "لأ انت اللي غلطان".. "أنا كنت داخل يمين".. "وأنا كنت باهدِّي علشان أعدِّيك".. "لأ كنت بتزنَّق عليَّ".. لا بد من حسم هذا الخلاف.. "أنا اللي غلطان يا إخوانَّا". نظرا إليَّ باستغراب.. الحمد لله الطريق مشي. الناس كلهم أصبحوا أنبياء.

فتحت موبايلي في المترو.. محادثة خاصة.. خاصة جدًّا.. عين شاب بجواري بَظِّت.. نطَّت داخل الموبايل.. قرفصت في المحادثة.. لكن احترامًا للخصوصية.. لم يتدخل في الحوار.

أخيرًا عدتُ إلى بيتي.. ألقيت أحداث اليوم وكل يوم في سلة القمامة.. وألقيت جسمي وعقلي ونفسي في مملكتي.. هنا تخبو كل الأضواء.. وتخرس جميع الأصوات؛ حيث يعلو الشخير.