الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

العالم

البلاد تتأهب لـ«الخميس الأسود».. ملف التقاعد صداع في رأس فرنسا

ماكرون
ماكرون
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

في الوقت الذي يرتفع فيه سن التقاعد في اليابان الى 70 عاما، وفي كل من بريطانيا وألمانيا إلى 67 عاماً، يستعد الفرنسيون للاحتجاج غدا الخميس، ليكون خميسا أسود كما يطلقون عليه، في إضراب عام يشل حركة وسائل النقل العام، احتجاجًا على إصدار مشروع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الخاص بإصلاح نظام التقاعد الذي تعتبر إحدى نقاطه الأساسية رفع سن التقاعد الاعتيادي من 62 عاما حاليا إلى 64 عاما بحلول 2030. 

وأطلقت نقابات العمال بفرنسا دعوة مشتركة إلى الإضراب والمظاهرات، وتوعدت الرئيس الفرنسي بما أسموه “أم المعارك”، حيث عاد الى هذا المشروع بعد رفضه من قبل الفرنسيين بين عامي 2019 و2020.
وحذر رئيس نقابة "القوة العاملة"، فريديريك سويو، على غرار كل المنظمات النقابية والمعارضة السياسية باستثناء معسكر اليمين، من أنه "إذا كان إيمانويل ماكرون يريد جعل ذلك أم إصلاحاته، فإن ذلك سوف يكون بالنسبة إلينا أم المعارك".
وتستعد النقابات العمالية الفرنسية التي وحدت صفوفها للمرة الأولى منذ أكثر من عشر سنوات لإنجاح مظاهرات كبرى ستنظم على المستوى الوطني، غدا الخميس، رفضا لمشروع إصلاح نظام التقاعد. 

وتأتي هذه التعبئة في وقت يعاني فيه غالبية الفرنسيين من غلاء المعيشة، خاصة بعد إعلان رئيسة الوزراء إليزابيث بورن رفع سن التقاعد الاعتيادي من 62 عاما حاليا بدءا من سبتمبر القادم، حيث تخطط لرفعه تدريجيا ثلاثة أشهر في السنة ليبلغ 64 عاما 2030.
 وقالت بورن: "أدرك جيدا أن تغيير منظومة معاشات التقاعد يثير تساؤلات ومخاوف بين الشعب الفرنسي"، مضيفة أن مهمة الحكومة الآن حشد الدعم الشعبي للإصلاح.

كان الرئيس ماكرون يأمل في رفع سن التقاعد الى 65 عاما في ولايته الأولى لكنه تراجع بعدما واجه معارضة عنيفة لكنه أكد في خطابه للأمة الفرنسية بمناسبة رأس السنة الجديدة 2023، ضرورة إصلاح هذا النظام الذي تعارضه المنظمات النقابية والمعارضة السياسية. 

وقال ماكرون، إن نظام التقاعد الحكومي معرض لخطر الانهيار، وبالتالي يجب التكاتف والعمل على تفادي حدوث هذا الألم لفرنسا.

♦ المشروع أمام مجلس الوزراء أواخر يناير

وينظر مجلس الوزراء الفرنسي في النص يوم 23 يناير، ثم يعرض مشروع القانون على اللجنة في الجمعية الوطنية اعتبارا من 30 يناير وفي البرلمان في 6 فبراير.
وفي تحرك مكثف لزيادة الضغط على الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، دعت الكونفيدرالية العامة للعمل "سي جي تي" في شركة "توتال إنيرجيز" العملاقة للطاقة والنقابات الكبرى الممثلة لعمال مصافي النفط إلى القيام بإضرابات تصاعدية أيام 19 و26 يناير و6 فبراير احتجاجا على المشروع الحكومي.
وقال إيريك سلليني، المنسق الوطني للكونفدرالية، إن الإضرابات المخطط لها ستتضمن "إغلاق منشآت المصافي إذا لزم الأمر". وأضاف أن الإضرابات ستعني "خفض الإنتاج" و"وقف التسليم".

ولهذا تشهد محطات التزود بالوقود في فرنسا تهافت الفرنسيين عليها، لا سيما في العاصمة باريس وضواحيها إقبالا كبيرا منذ أمس، حيث تزداد المخاوف من نقص في الوقود.

وبات على الرئيس الوسطي أن يحسب جيدا خطواته لا سيما بعدما خسر الأغلبية البرلمانية في يونيو 2022، ويواجه صعوبات كثيرة في إصدار التشريعات، في وقت يلقي التضخم المتزايد بثقله على الجو العام.

ومن المرجح أن يكون موقف الرأي العام من إصلاح نظام التقاعد والإضرابات حاسما في تحديد ما إذا كان ماكرون سينجح في الوفاء بالاتزاماته وبوعوده الانتخابية.
ويخشى الفرنسيون أن تلجأ الحكومة إلى آلية دستورية مثيرة للجدل هي "المادة 49.3" التي تسمح للسلطة التنفيذية بإصدار التشريعات عبر الجمعية الوطنية بدون حصول تصويت خصوصا اذا فشل في الحصول على مؤيدين في البرلمان لهذا الإصلاح.

بيد أن المفارقة تكمن في أنه إذا اتحدت جميع أحزاب المعارضة في مواجهة الإجراء أو طالبت بحجب الثقة عن الحكومة، فيمكنها إجراء انتخابات تشريعية جديدة قد تطيح بحكومة اليزابيث بورن وقد تأتي بالمعارضة الى السلطة ولا سيما حزب مارين لوبن اليمين المتطرف في تعايش سياسي غير محمود فرنسيا ولا أوروبيا .

ومن المنتظر أن يتبع إضراب عمال مصافي النفط المقرر لمدة 24 ساعة في غدا إضراب ولمدة 48 ساعة اعتبارا من 26 يناير وآخر لمدة 72 ساعة اعتبارا من 6 فبراير، لتتسب في تعطل مصافي النفط والمستودعات ونقص شديد في وقود المركبات، وتكدس طوابير انتظار ضخمة في العديد من محطات الوقود.


♦ إشكالية ملف التقاعد في فرنسا 

جدير بالذكر أن ملف التقاعد مطروح في فرنسا منذ نحو ثلاثين عاماً حيث شهدت البلاد سلسلة إصلاحات كبرى لأنظمة التقاعد للاستجابة لتقدم سن الشعب والتدهور المالي في خزينتها، وفي كل مرة يعلن فيها عن تمديد سن العمل، تنظم حركات اجتماعية في بلد تعتبر فيه نسبة توظيف كبار السن متدنية بشكل خاص.
وتأتي مبادرة ماكرون في أعقاب نشر تقرير رسمي في الخريف أظهر أن الإنفاق السنوي على معاشات التقاعد الحكومية سيتجاوز مساهمات الموظفين وأرباب العمل على مدى العقود الخمسة المقبلة، ما سوف يضيف مئات المليارات من اليوروات إلى الدين الوطني، الذي وصل إلى حافة 2.9 تريليون يورو نصفهم ديون المعاشات والتقاعد. وبالتالي يأمل ماكرون توفير بضع مئات من المليارات من الدين العام للدولة.

وأشار تقرير مجلس التوجيه للتقاعد إلى أن فرنسا كان لديها 2.1 عامل لكل متقاعد في العام 2000، بيد أن هذه النسبة أضحت 1.7 عاملاً في العام 2020. 

وبحلول العام 2070، من المتوقع أن يكون متوسط العمر 90 عامًا للنساء و87 عامًا وستة أشهر للرجال، فسوف يكون لدى فرنسا 1.2 عامل فقط لكل متقاعد ما لم يوافق الفرنسيون على رفع سن التقاعد.

ومع ذلك فإن محاولات إصلاح نظام التقاعد لا تحظى بشعبية كبيرة في البلاد رغم ان ساعات العمل الأسبوعية في فرنسا لا تتجاوز 35 ساعة، إذ سبق لماكرون أن حاول تنفيذ إصلاح مماثل في العام 2019 خلال فترة ولايته الأولى، لكن ذلك أثار أسابيع من الاحتجاجات والإضرابات في القطاع العام قبل التخلي عن الخطة، خاصة مع تفشي جائحة فيروس كورونا المستجد. 
 

لكن البلاد أصبحت أكثر اضطراباً الآن، مع أزمة تكلفة المعيشة التي تأكل ميزانيات الأسرة، في حين يواجه النظام الصحي الوطني صعوبات تسببت في قلق واسع النطاق.

كان هذا الملف قد طرحه الرئيس الديجولي جاك شيراك عام 1995، وسعى وزراءه إلى التقليل من مخاطر الإضرابات والتظاهرات التي كانت تعيق سير الحياة لكن الشعب الفرنسي أجبر الرئيس شيراك على التراجع عن إصلاح نظام التقاعد فلم يعد اليه حتى رحيله عن السلطة عام 2007، فيما لم يجرؤ الرئيسان ساركوزي وهولند على التطرق بعمق اليه الا على استحياء وانسحبا منه نهائيا لكن الرئيس ماكرون يعتبر هذا الإصلاح جوهريا في برامج ولايته من أجل تقليص الدين وتخفيف العبيء الكبير على الميزانية العامة. 

كان ماكرون قد أعلن خلال ترشحه لولاية رئاسية ثانية أنه يعتزم رفع سن التقاعد إلى سن الرابعة والستين، وهو الأمر الذي سوف تكشف عنه الحكومة الفرنسية الجمعة على الأرجح.

وشجب معسكر اليسار برمته هذا القرار ووصفه بأنه "قاسٍ" وغير مقبول من قبل النقابيين، الذين يهددون بإيقاف البلاد وشلها بالإضرابات والاحتجاجات في محاولة لإجبار رئيس البلاد على العودة عن هذا الأمر.

لكن ماكرون يعول على معسكر اليمين المحافظ الذي يؤيده في مسعاه، وأظهر استطلاع للرأي نُشر الأسبوع الماضي أن 68% من الفرنسيين يعارضون رفع سن التقاعد حتى سن 64 عاما حيث يرى الفرنسيون أن الحق في التقاعد في سن معقولة كان "خصوصية فرنسية مقارنة بجيرانهم الأوروبيين، وبالتالي عليهم الاحتفاظ بها.

وأعربوا عن قلقهم من أن فرنسا "تتراجع" عن خصوصيتها باتباعها خطى المملكة المتحدة، حيث تريد الحكومة البريطانية تحديد سن التقاعد عند 68 عاما، بينما في ألمانيا سن التقاعد هو 67 عاما. و80 ساعة عمل أسبوعية ولهذا فانتاج واقتصاد البلدين أقوى كن اقتصاد فرنسا لكن الفرنسيين يتميزون بالمزايا والمنح والمساعدات الاجتماعية المتنوعة.


ولكن حتى رجال الأعمال، الذين يشكلون حجر الأساس لدعم ماكرون، قلقون من رفع سن التقاعد، ويرون بأن الإصلاح "جرى تفسيره بشكل سيئ" وكان توقيته غير مناسب لأنه جاء بعد وباء كوفيد مباشرةً ، خضم أزمة اقتصادية، لكنهم يجهلون أن الرئيس ماكرون تم انتخابه على برنامج اقتصادي ليخرج بفرنسا الى بر الأمان وقد نجح نسبيا في انعاش عجلة التنمية والاقتصاد وخفف الدين العام من 3.3 ترليون يورو إلى 2.9 ترليون، كما قلص فجوة البطالة التي شكلت مرارا أزمة مزمنة للبلاد، ويأمل في ما بقى من سنوات ولايته على تفادي تفاقم الوضع الاقتصادي الصعب بالفعل سيما بعد ازمتي الجائحة والحرب الروسية الأوكرانية وتداعياتهما على الاقتصاد العالمي بشكل عام وعلى فرنسا بشكل خاص.

♦ النقابات تتهيأ للاحتجاج
"نحن عازمون على القيام بكل شيء لمنع المصادقة على مشروع قانون إصلاح نظام التقاعد من قبل الجمعية الوطنية". هكذا قال فيليب مارتينيز، رئيس "الكونفدرالية العامة للعمال" (يسار) الذي دعا الفرنسيين من كل الفئات الاجتماعية إلى "الخروج إلى الشارع غدا الخميس، للقول لا لقانون إصلاح نظام التقاعد في فرنسا".

من جهته وصف لوران بيرجيه، زعيم "الكونفدرالية الفرنسية الديمقراطية للعمل" (وسط)، وهي أكبر نقابة من حيث العدد، مشروع الحكومة على أنه "أسوأ وأعنف مشروع منذ ثلاثين عاما"، مثنيا في الوقت نفسه على "وحدة الصفوف التي أظهرتها جميع النقابات ورغبتها في إفشال المشروع الحكومي".

وقال "نقول مرة أخرى لا لمشروع إصلاح نظام التقاعد لأنه في الحقيقة هو مشروع لإصلاح المالية العامة على حساب العمال والموظفين".

وتابع: "طبعا هناك بعض القرارات الإيجابية، لكن هذا لن يمنع الفرنسيين أن يعملوا سنتين إضافيتين في النهاية"، منوها إلى أن "النقابة التي يترأسها كانت دائما ضد فكرة تمديد سن التقاعد لأنها غير عادلة".

♦ النقابات لم تتمكن من فرض أي تغيير على مشروع القانون
والتقت جميع النقابات العمالية الفرنسية في باريس بداية هذا الأسبوع واتفقت على ضرورة تنظيم مسيرات احتجاجية مشتركة "لإسماع صوتها في الشارع" حسب دومنيك كرونا، الأمين العام المساعد في الاتحاد الوطني لنقابات المزارعين الذي أكد أن "الحكومة نجحت في توحيد صفوف جميع النقابات وهذا أمر لم نكن ننتظره".

ورغم صفحة المشاورات التي فتحتها الحكومة مع المتعاملين الاجتماعيين بإشراك وزارة العمل في شهر أكتوبر الماضي، إلا أن النقابات لم تتمكن من فرض أي إصلاح أو تغيير على مشروع القانون" وفق جيرار مارديني، الأمين العام "للكونفدرالية العامة للإطارات والموظفين الساميين".

وقال في هذا الصدد: "لم تجر أية مشاورات. الحكومة أرادت فقط أن تبين للفرنسيين بأنها فتحت نقاشا بناء ومثمرا مع ممثلي العمال. لكن كل اللقاءات التي جمعتنا بها (الحكومة) لم تفض سوى إلى قرارات بسيطة وثانوية لم يكن لها تأثير كبير على جوهر المشروع".

وللضغط أكثر على الحكومة، أطلقت النقابات عريضة افتراضية. فيما دعت الفرنسيين إلى التوقيع عليها بشكل كثيف لعلها ستبين للحكومة مدى معارضة المواطنين لمشروعها" حسب لوران بيرجيه الذي روى شهادة لممرضة قالت فيها: "أشعر كأنني شاركت في سباق الماراثون وعندما تبقى كيلومتران فقط من نقطة الوصول، طالب المنظمون أن أركض كيلومترين اثنين إضافيين".

من جانبها، دعت "الكونفدرالية العامة للعمال" موظفي القطاع الخاص إلى "الالتحاق بالمسيرات الاحتجاجية وعرقلة جميع القطاعات الاقتصادية والتجارية لأن هذا هو الشيء الوحيد الذي يمكن أن يغير موقف الحكومة وأرباب العمل".

وأظهرت العديد من استطلاعات الرأي رفض الفرنسيين لمشروع تمديد سنوات العمل من قبل الحكومة، حيث كشف معهد "أوديكسا" لسبر الآراء لصالح مجلة "شلانج" قبل يومين أن "80% من الفرنسيين ضد مشروع تمديد سن التقاعد إلى 64 عاما و83% ضد 65 عاما".

واستطلاعات أخرى أفضت تقريبا إلى نفس النتائج. فهل ستتمكن النقابات من لي ذراع الحكومة وإرغامها على التخلي عن مشروعها، أم سيجد الفرنسيون أنفسهم أمام صراع طويل الأمد قد يشل الحركة الاقتصادية، وقد يطيح بالحكومة الفرنسية أو حتى يدفع الرئيس ماكرون الى الرحيل عن السلطة كما سبق وفعل زعيم فرنسا الخالد الجنرال شارل ديجول بعد أحداث مايو 68.