الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

ثليج السوشيال

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

لأننا نعيش زمن العكوسات؛ فمنطقي جدًّا أن تقطع مواقع التواصل الاجتماعي روابط التواصل الاجتماعي، فتجد البيت، بل والحجرة الواحدة، جُزُرًا منعزلة، لا يفصل بينها إلا سنتيمترات فيزيقيًّا وآلاف السنين الفلكية اجتماعيًّا ونفسيًّا.. وكلُّ عالم مغاير لما يلاصقه.
هذا هو الواقع الذي يجب أن نُقِرَّ به أولًا كأول خطوة للتعامل معه. ابنك الجالس بجوارك إنما هو مجرد جسد يشغل حيزًا مكانيًّا فقط، بينما العقل والنفس والروح وكل شيء في عوالم أخرى لا تدرك مداها.
تكتشف هذا بمجرد وجود تواصل نادر بينكما، لا يطول، حيث تُشوِّش عليه فجوات ضخمة تظهر في نقاشكما كطرفين، الذي لا يلبث أن يتحول إلى احتكاكات وصدامات لغوية نابعة من طفرات جيلية.
الأزمة في الطرف الأول الذي هو أنت.. أنك تفكر بعقلية زمنك المُنقضي في عمل وصاية ورقابة على ابنك، وهو تصرُّف ينمُّ عن سذاجة وسطحية يلمحها الابن، فيُدخِلك في متاهات تسحبك إلى منطقة أمان وهمية تقبع فيها، بينما هو في مناطق أخرى يعيش ويتعايش. لماذا؟ لأنك لم يكن لك أي تواجد داخلي معه، وركنت إلى التدخل الخارجي، الذي يقطع آخر خيط بينكما، وهو الثقة.
ولو أنك منذ صغر ابنك أقمت جسورًا من الثقة، لاستحال خدشها، ولو أنك جعلته رقيبًا على نفسه؛ من أجل مصلحته هو، لما حدث هذا الشرخ بين الطرفين، خاصة أن الممنوع مرغوب، وتصرفك جعل الضار به ترياقًا له، وبهذا اتسعت مساحة الـ (بين).
لماذا لا تتخلص من الـ (بين)، وتكونان طرفًا واحدًا في اتجاه واحد، لا اتجاهين متقابلين متواجهين؟
هذه ليست لوغاريتمات.. الأمر أبسط من البساطة، وهناك تجارب لي في هذا الأمر، سأذكر بعضها، ولكن قبل هذا لا بد من أن تمسح من دماغك أنه جيل لا يعرف شيئًا.. هو يعرف، ولكن هناك تشويش على وعيه، وبمجرد التلاحم بينكما، من نفسه هو سيبحث عن الطريق الصحيح للمعلومة، ويمكن أن يصبح مصدرًا لك فيها.. فقط بالتوجيه هو يعرف الطريق حق المعرفة، ويعرف كيف يصل بأسرع الطرق.
أول هذه التجارب التي سأذكرها هي التسلل إلى ملعبه، والتعامل بأدواته، وليس رفضها، أو انتقادها؛ لأن هذا عالمه هو.
مواقع التواصل الاجتماعي التي قطعت تواصلكما استخدِمْها وبنفس الأدوات لتكون جسر التواصل بينكما.. بادر وابنُك جالس بجوارك بالتواصل معه من خلال الواتس أو الفيس مثلًا.. أرسِلْ إليه ما يثير انتباهه، ويجذب اهتمامه.. شارِكْه في الاستماع للمغنين المفضلين له دون تلميح إلى أنهم حمير (وهي حقيقة).. لا تشاركه من باب أنه واجب عليه الرد الفوري، ولكن من باب التواصل كصديق افتراضي.
تابع أحدث أعمال النجوم الذين يتابعهم، وتحدث معه عنهم، وأغمِضْ عيينيك وأذنيك عن بشاعتهم، وتخيل أنهم أم كلثوم وعبد الحليم ونجاة وشادية.
تعامل كصحفي سَدَّ كل الذائقات الفنية، وفتح ماراثون التسابق في البحث عن الرائج لعمل مشاهدات لخبره، والركض لدخول التريند.. في البداية سيتعجب ابنك، وتنتابه ريبة من تصرفك، ولكن بعد أن يتأكد من أنك تتكلم بجد، سيبدأ جبل الجليد بينكما يذوب، وتتبخر الـ (بين).
وأثناء ذلك راعِ ألا تكون لَحوحًا، أو مملاًّ، أو تتعامل كأب، فلا تكثر من مراسلته، ولا تطالبه بالرد عيك من أول وهلة.
هناك مادة ثرية ستعينك بعد ذلك في الالتحام، وليس التواصل فقط، وهي إفيهات وقلش المصريين، اجعلها لغة تواصل بينكما، وهي لا تحتاج لمجهود، وإنما متابعة وإرسال له.
شاركه في اهتماماته الحياتية، ليس بفضول منك، وإنما بتفضُّل منه.. اطلب منه ألا يكون أنانيًّا بأن يشاهد فيلمًا يعجبه وحده، واجلس وتفرَّجْ معه، ولكن اكبح جماح الانتقاد؛ حتى لا يكره جلوسك معه. وعمِّم هذه الفكرة، وخذ رأيك في أمور عملية تحت عنوان "أنتم جيل تعرفون هذا أكثر مني".
اقترح عليه في يوم استراحة أن تجربوا لعب الكوتشينة، أو أتوبيس كومبليه كمثال، إذا اعتذر العبْها مع أمه، ومرة تلو الأخرى ستشده اللعبة؛ حيث سيبدأ في إدراك التواصل الاجتماعي الحميم والدافئ بالتفاعل الحقيقي الذي يفتقده، وستجده يطلب مشاركتما اللعب. وهنا احرص على أن يكون جو اللعب طريفًا ومرحًا، وحبذا لو هُزِمْتَ، وعبَّرتَ عن هزيمتك بفكاهة تلقائية لا مصطنعة، ستكتشف أن ابنك بدأ يستلطف دمك، ويتجاوب بتعليقات فكاهية.
أثناء اللعب يمكن أن تحكي عن ذكريات طفولتك في اللعبة، فهذا الجيل يحب سماع الحكايات الطريفة. كما أنه سيجد في حكاياتك عن ماضيك مذاقًا خاصًّا وعالمًا جديدًا، يثير فضوله لسماعه وتعرُّف تفاصيله.
وطوال تعاملك معه احذر أن تقلل من شأنه؛ لأن الجيل الجديد كما تراه منفلتًا و"مش متربي"، هو يراك ركام الماضي العتيد العتيق، وبتواصلك معه سينتبه إلى أنك ثروة بشرية تكتنز خبرات حياتية هو في أمسِّ الحاجة إليها، وسيكون أحرص منك على استثمار رصيدك ليضيف إليه، ويوفر عناء تجارب مريرة هو لا يحب أن يدخل فيها، خاصة أنه أكثر جيل ينطبق عليه قول الله عز وجل "خُلِق الإنْسانُ من عَجِلٍ".
عندما يدرك الابن أن أباه وأمه صديقان بمنطق الفيسبوك، سيتجرأ في استشارتهما، وهنا تكون ردودك بنفس منطق الفيس.. وجهات نظر وليست تعليمات أو أوامر، وستنفُذ هذه الوجهات إلى عقله ونفسه.
وهنا ستبدأ في جني ثمار ما فعلت مضاعفًا لك وله، حيث ستلتحم ثمرة الابن مع جذور الأب الضاربة في العراقة، وستجده يشعر بك وبتعبك من أجله، ويتعلق بك تعلقًا شديدًا، ويحرص من نفسه على تقويم سلوكه؛ حتى يكون ابنًا صالحًا لأب يضحي بكل شيء من أجله، وأهم تضحياته قبول اهتمامات الجيل المستفزة والمنافية للذوق والإنسانية.