الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الوالى ومشايخ الحكم الدينى (2-2)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

ومازلنا مع الوالى ومشايخ الحكم الدينى ونستكمل المقال السابق بما يلى، تاسعا: نجاح مصر في عهد محمد علي وأبناءه في طبع ونشر الصحف عمل (رصيد) معرفي كبير نتيجة لحماس المفكرين في الكتابة، فكل مفكر يريد أن يصبح مشهورا معروفا يكتب في جريدة والأمر لم يعد يتطلب (مسجد) ليخطب فيه، أو كتاب ممكن يحرق مع أول نسخة، الآن صار البعض يكتب والآلاف يقرأون، فكانت فكرة تكوين (دار الكتب المصرية) اللي أعلنها محمد علي باشا سنة 1819 في إنشاء "الكتبخانة" في القلعة، لكن لم يتسنى له إنشاءها لأن جريدة الوقائع لم تصدر بعد، ورصيد مصر من الكتب قليل بحكم سيطرة الأزهر على المساجد وتحريم ومنع الاجتهاد الديني، فكل مفكر يريد الكتابة عليه بشرح كتب السابقين ليس إلا، وهذه كانت سمة القرون الوسطى أن الكتابة الدينية فيها كانت عبارة عن شروح لأمهات الكتب الأولى أو لمجتهدي العصر العباسي..
عاشرا: سنة 1851 نجحت مصر في إنشاء "الكتبخانة" ومعناها "دار الكتب" وأصل كلمة "خانة أو خان" فارسي دخل التركية في العصر العثماني ويعني (دار أو بيت)، فيقال "خان يونس" أي دار يونس، "خان الخليلي" أي دار الخليلي، "خان شيخون" أي دار شيخون، وهكذا، وإنشاء الكتبخانة حدث بجمع كل الكتب المخزونة في المساجد والأضرحة واستمر هذا الجهد 19 عام حتى سنة 1870م حيث تم جمع 20 ألف كتاب ومخطوط تم وضعهم في "الكتبخانة الخديوية المصرية" التي أشرف على إنجازها الخديوي إسماعيل وبجهد واضح من "علي باشا مبارك" والتي تطورت عدة مرات لتصبح الآن (دار الكتب المصرية)
تخيل حضرتك هذه أول مكتبة مصرية تم جمعها بعد حرق صلاح الدين الأيوبي لمكتبة الحكمة الفاطمية، أي ظلت مصر حوالي 700 عام بلا مكتبات، فلم يفكر العثمانيون والمماليك في صنع وإنشاء المكتبات في مصر لأن جهدهم كان منصبا فقط على الغزو والسلطة والغنائم، وهذا الفارق بين العالم والجاهل، أو بين الحرامي والأمين..صحيح كان للعثمانيين مكتبات حفظوا بها مخطوطات العصر العباسي لكن هذا في تركيا ونادرا ما كانوا يهتمون بصنع وإنجاز مكتبات خارج حدود مملكتهم، وهذه كانت سياسة العثمانيين طوال 600 سنة، فلم يهتموا بإصلاح أحوال الرعايا والشعوب الذين يحكموهم ولكن اهتموا فقط بإصلاح حال الترك في الأناضول وما حولها..ولولا الإصلاح الذي انتهجه محمد علي ما أنجزت مصر هذه المكتبة التي وصل عدد الكتب فيها مطلع القرن العشرين أكثر من 130 ألف كتاب..
علما بأن هناك مكتبات أخرى أنجزت كمكتبة "أحمد طلعت باشا" وفيها 32 ألف كتاب، ومكتبة "أحمد تيمور باشا" وفيها 18 ألف كتاب، فيكون مجموع ما حفظته مصر من الكتب أوائل القرن 20 أكثر من (250 ألف كتب) ربع مليون مجلد عرفهم المصريون بفضل الطفرة العلمية غير المسبوقة التي صنعها محمد علي وأولاده..
حادي عشر: لم يكتف محمد علي بإنجاز الجرائد والصحف والمكتبات، بل أنفق على مشروع عام (للترجمة) ونقل علوم الحضارة الغربية لمصر، فاستقدم الدكتور"كلوت بك" مؤسس مدرسة الطب المصرية، والدكتور "برون بك"..وغيرهم، فقديما كان الطب المصري متخلفا ويقوم على الدجل والخرافة وما يعرف بطب الأعشاب أو النبوي، فكان الطاعون والكوليرا يفتكان بالشعب بلا رحمة، وأمراض أخرى كالبلهارسيا والتيفود والرمد..وغيرهم، جاء كلوت بك وكتب (رسالة في الطاعون) ترجمها "يوحنا عنحوري" وكان سوريا استقدمه محمد علي لترجمة مؤلفات علماء الطب الذين استقدمهم لتطوير الطب المصري، وتوفى يوحنا سنة 1845م، وكذلك من المترجمين "يوسف فرعون" وغيرهم..
ثاني عشر: كان كلوت بك وبرون بك هم مؤسسين علم الطب في مصر، وعلى أيديهم ظهر كبار الأطباء المصريين الذين نهضوا بالصحة المصرية كابراهيم النبراوي، ومحمد البقلي ومحمد الشافعي ومحمد الشباسي وعيسوي النحراوي ومصطفى السبكي..وغيرهم عشرات الأطباء والمترجمين الذين نقلوا علوم الطب الفرنسية إلى مصر وكانوا على صدر البعثات العلمية التي أرسلها محمد علي إلى فرنسا لنقل النهضة الأوروبية إلى المصريين، وبفضلهم أنشأ الباشا أول مستشفى ومدرسة للطب في مصر هي (قصر العيني) سنة 1827 م، وسبب تسميته أن محمد علي أمر أحد أثرياء مصر واسمه "أحمد العيني باشا" أن يتبرع بقصره في منطقة المنيل لصالح إنشاء مدرسة للطب، فعرف المكان "بقصر العيني" ثم نطقه الشعب لاحقا ب (القصر العيني) كأول وأشهر وأكبر مستشفى مصرية على الإطلاق..
ثالث عشر: لكن النهضة العلمية لا يمكن أن تحدث في مصر بدون علم الترجمة الذي كان يجهله المصريون تماما، فأنشأ محمد علي مدرسة المترجمين سنة 1835 والتي أصبحت لاحقا "كلية الألسن" وقد استعان محمد علي في ذلك بالشيخ "رفاعة الطهطاوي" وهو شيخ صعيدي من أعيان الجنوب كان قد أرسله في البعثات العلمية، ثم جاء إلى مصر وترجم عدة كتب فرنسية من بينها "القانون الفرنسي" الذي كان مصدره أعمال فلاسفة التنوير كجان جاك روسو وفولتير..وغيرهم، وترجم الشيخ رفاعة أيضا علوم فرنسية أخرى كالهندسة والعسكرية وكان بناء على ذلك إنشاء أول جيش مصري منذ 2500 عام بعدما انهارت الحضارة المصرية القديمة على يد الآشوريين والإخمينيين..فاستقدم محمد علي أحد عقول الفرنسيين الفذة في إنشاء الجيش وهو "سليمان باشا الفرنساوي" أو الكولونيل سيف..
واختصار ذلك أن نشأ علم الترجمة في مصر، فكان الشيخ رفاعة من مؤسسيه ثم رموزه في عصر لاحق كفتحي باشا زغلول، ويعقوب صروف، وغيرهم، وكانت للمطابع دورا كبيرا في تشجيع هؤلاء على الترجمة حيث كان الذي يعيق نقل لغات الآخرين قديما تكاليف نسخ الكتب القديمة من حيث (الوقت والجهد والمال) أما قدوم المطبعة المصرية وبدء عصر الصحف والمجلات سهل المسألة كثيرا وشجع العلماء والمفكرين على الكتابة والتأليف، وفي هذه الأجواء خرج علماء أزهر ورجال دين مستنيرين بعدما عرفوا الحقيقة وهضموها كالشيوخ "محمد عبده" و"جمال الدين الأفغاني" و"حسين المرصفي" والأخير له مؤلفات في علوم الأدب والاجتماع كأول مرة يتم فصل هذه العلوم عن الفقه القديم..وما فعله المرصفي كان مقدمة لرؤية كتب الفقه القديمة من منظور تاريخي مختلف ليست كحجة دينية بل كمعلومات نفهم بها حياة السابقين..
طبعا الزمن تغير الآن وباجتياح الوهابية للأزهر والعالم الإسلامي عادت كتب السابقين كدليل شرعي وديني وضاعت جهود عبده والأفغاني والمرصفي في تحديث العقل العربي والإسلامي.