الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

د. يسري عبدالله يكتب: (مولانا الجوسقي).. سردية التصوف وتعزيز المعنى

د. يسري عبدالله
د. يسري عبدالله
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

 

يعد ثروت الخرباوي أحد أبرز المفكرين  الذين أسهموا في كشف المسكوت عنه داخل الجماعة المتطرفة ( الإخوان المسلمون) بأسوارها العتيقة، وقد برز هذا جليا في كتابيه المؤسسين (قلب الإخوان.. محاكم تفتيش الجماعة ) الذي يروي فيه قصة الخروج إلى النهار، والانعتاق من أسر جماعة وظفت المقدس لخدمة أهداف سياسية براجماتية بالأساس، و(سر المعبد.. الأسرار الخفية لجماعة الإخوان المسلمين) الذي يفكك فيه المرجعيات المستترة التي نهضت عليها الجماعة، من قبيل علاقتها العضوية بالماسونية العالمية، وخروج كافة التنطيمات الإرهابية من رحمها. 
وفي روايته الأولى (زمكان) تتسع ضفاف الرواية وحيواتها لتشمل ازمنة متعددة، وامكنة مختلفة، من مصر الملكية إلى زمن الخليفة المعتصم إلى المأمون إلى البرامكة، من القاهرة إلى بغداد، ومن محنة الإمام أحمد بن حنبل إلى أسئلة الصبي المتواترة عن الموت، والآخر، وعن الوجود والعدم في رحلة شيقة وشائكة معا تجدل بين الزمان والمكان في بنية سردية متجانسة. 
وفي روايته الثانية (مولانا الجوسقي)، والصادرة في القاهرة  (مؤسسة بتانة)، تبرز جملة من الأسئلة الجمالية المتصلة بطبيعة النوع الأدبي وماهيته في الآن وهنا. حيث اتسع مفهوم الرواية  ليشمل الخبرات الشخصية، والتاريخ، و الهواجس، والأحلام والأماني والإخفاقات اليومية، فالرواية جنس مفتوح على عشرات الفنون الأخرى، تستعير بعضا من آلياتها، كما تتجادل الرواية مع حقول دلالية ومعرفية أخرى، فتأخد من التصوف، وحركة الحياة، والممارسات الاجتماعية، ودوائر النفس البشرية بمختلف تعقيداتها وتحولاتها أيضا. 


وربما  تطرح رواية الكاتب ثروت الخرباوي (مولانا الجوسقي) بعضا من إشكاليات النوع الأدبي، من جهة،  و تستند على لعبة روائية من جهة ثانية، يتجه فيها الكاتب صوب حيلة تقنية مراوغة من خلال الإشارة المخاتلة التي تحضر بوصفها عنوانا فرعيا للرواية، فنرى تحت العنوان في الداخل (نص للشيخ عبدالله الجوسقي). 
تبدأ الرواية بتوطئة على غرار  المتون القديمة، وبما يعني إحالة على المعنى التراثي الذي يمكن أن تحيل إليه المفردة او العنوان ذاته بإشارته الفرعية ( مولانا الجوسقي.. نص للشيخ عبدالله الجوسقي).

تتشكل الرواية من عشرة فصول سردية وتوطئة، تشكل في مجملها المتن الحكائي للرواية، يحمل كل فصل منها عنوانا معبرا عن جوهره، وكاشفا عن شخصيته المركزية المروي عنها داخل النص، فتتعدد الفصول والأسماء، وتتفرع الحكايات عن الحلاج، والفضيل بن عياض، وأبي الحسن الشاذلي، وابن عطاء الله السكندري، وفاطمة النيسابورية، وغيرهم.
هذه اللعبة الروائية التي تنسب النص إلى الشيخ المتخيل (عبدالله الجوسقي)، بينما على غلاف الكتاب كاتبه الأصلى ثروت الخرباوى وهذا يعنى أننا أمام لعبة فنية تتكئ على ما يسمى الإيهام بالواقع، والذى يتجلى فى مقابلة متخيلة بين ثروت عبدالباسط الخرباوي  الذي يحضر بوصفه شخصية روائية داخل السرد، والشيخ عبدالله الجوسقي. 

تنهض الرواية على ما يسمى  بمفهوم السرد الإطار، فالكاتب يريد أن يحكى لنا عن أقطاب المتصوفة، وقد صنع هذه اللعبة الروائية التى تعتمد على الإيهام، وإضافة عنوان فرعي أسفل العنوان الأصلى، لنصبح ومن ثم أمام نسق سردي يعتمد تكنيك الحكاية الأم (السرد الإطار)، و الحكايات الفرعية التي تنبثق عنها.

تبدأ الرواية من نقطة زمانية محددة تشير إلى واقع راهن، هذه الواقعة هى المفجرة للحكايات التى تأتى فيما بعد، مجموعة من المصلين تهرع إلى خارج المكان، ظنا منهم أن هناك تفجيرا قد حدث، ولم يكن الأمر سوى انفجار جهاز التكييف! غير أن ثمة شخصا واحدا قد عاد وهو الشخصية المركزية داخل العمل الذي يتماهى فيه المؤلف الذي يحضر بوصفه شخصية فنية كما أشرنا ( ثروت عبدالباسط)، مع الراوي الضمني للعمل، وحينما يعود يجد رجلا وحيدا باقيا، لم يتطرق الفزع إليه، هو عبدالله الجوسقي، هذه هى الحكاية الأم أو الإطار التى تتناسل منها الحكايات الأخرى والتى تأخذ شكل الحوارية السردية بين ثروت عبدالباسط الخرباوى وعبدالله الجوسقى: "هل تهمَّكَ قِصَّتي حتَّى تَسْمَعَها؟ هي في الحَقيقَةِ لَيْسَتْ قِصَّتي، ولِكنَّها قِصَّةٌ واحِدةٌ خالِدةٌ، عِشْتُ فيها ومعها مِئاتِ المرَّات، أمَّا أنا فلا تَلْتَفِتْ لي؛ فما أنا إِلاَ ذَرَّةٌ من ذَرَّات هذا الكَوْنِ الهائِلِ الَّذي لم نَستَطِعْ أن نعرف ما هِيَتَه حتى الآن، والعجيب أَنَّنا كُلَّما عَرَفناهُ، جَهِلْناهُ. وقَدْ تُقابِلُني في الطُّرُقاتِ أو الأزِقَّة فلا تَعْرِفُني وقد تَظُنُّني في بَعْضِ الأحيانِ مُتَسوِّلًا، أو شاعِرًا عَبَثِيًّا أو مَجذوبًا من المجاذيب، وفي أحيانٍ أُخرى ستظُنُّني وزيرًا، أو مَلِكًا، أو مُفَكِّرًا كبيرًا يخطِّط لِلأمَمِ مُسْتَقْبَلَها، وقد تراني وَمْضَةَ نور، أو بَصيصَ ضَوءٍ ينظر إليك في الظَّلامِ فيرشِدُكَ، أو دَمْعَةً سَقَطَت من عَيْنِ أُمٍ فَقَدَت طِفْلَها، وحينما فقَدَته عاشَت بقيَّةّ عُمْرِها داخِلَ دُموعِها، وقد تَراني حَشْرَجَةَ أَلَمٍ خَرَجَت من قَلْبِ ابْنٍ فَقَدَ أُمَّه، وقَدْ تَراني في أيِّ شيءٍ؛ إِن أَمْعَنْتَ بصيرتَك، وما أنا في الحقيقَةِ إلا ذَرَّةٌ من ذرَّات الكَوْنِ، لا قيمَةَ لها على الإطلاقِ، ولَنْ تُضيفَ للدُّنيا شيئا، ولن تسلب منها شيئا ".
تهيمن سردية التصوف على الرواية، بدءا من استدعاء بعضا من أقطابها  (الحلاج، الفضيل بن عياض، أبو الحسن الشاذلي،...)، ومرورا بالصوفي المتخيل عبدالله الجوسقي، الذي يمثل مركز السرد في الرواية، والحلقة الواصلة بين الفصول المتعددة، والأقطاب المتنوعين، ووصولا إلى استحضار بعض المرويات الصوفية من جهة، وتوظيف جدلية المريد والشيخ من جهة ثانية، وتضفيرهما في بنية النص السردي.
وتتحقق جدلية الشيخ والمريد عبر شخصيتي الرواية المركزيتين، وطرفي الحكاية الإطار (عبدالله الجوسقي/ ثروت عبدالباسط).
حوى السرد جدلا بين التسجيل والتخييل، عبر استعراض مقاطع من حياة المتصوفة، وبعضا من الحكايات التخييلية، وقد احتاجت الرواية إلى توسعة مساحات التخييل السردي داخلها. 
وقد حوت بعض الفصول تفكيكا للحيوات المسرودة عن بعض المتصوفة من قبيل الفصل السردي الذي يحيل إلى الحسين بن منصور الحلاج، ويعد من أعذب الفصول السردية داخل الرواية. 
وبعد.. تنفتح (مولانا الجوسقي) للروائي ثروت الخرباوي على سردية التصوف، وما تحويه من تعزيز لقيم المحبة والتسامح، عبر استدعاء حكاية متخيلة في استهلالها الروائي، واصلة المدى بين الوحدات السردية (المتصلة/ المنفصلة) المكونة لها.