الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

تسويق الوجع الإعلامي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

 كان أبي رحمه الله صيدلانيًا يحب عمله. لم يكن أبدًا يخبر مريضًا يتلقى العلاج أنه مريض. بل كان يستبدل ذلك بجمل “وضعنا حلو. بناخد علاج عشان الوضع ما يبقاش أسوأ، لو مش عايز تاخده بلاش. بس ده الأفضل”، تلك الكلمات القليلة كانت تجعل المريض يأخذ العلاج ولا يبالغ في شراء أدوية أخرى لدعمه، بينما يلجأ البعض الآخرون لتصزير الحياة الموجعة للمريض، يخبرونه أنه يوشك على الدخول في دوامات متصلة متسلسلة من الأوجاع، وأن عليه أن يأخذ الدواء الفلاني ومعه البديل العلاني، إذ أن الأول سيعالجه لكنه لن يقضي على التحسس من بعض مركباته، وأن عليه أن يخذ علبة كاملة حتى لو تماثل للشفاء من ثلاث أو أربع حبات. نتيجة ذلك تحقق ما أحب تسميته بـ "تسويق الوجع".
  إن المباديء الأساسية في تسويق الوجع تعتمد على ما نسميه في نظريات التسويق بتخليق السلوك المستهدف. هناك طريقتان لذلك: الأولى أن يصور لك المسوق المنتج بأنه سر السعادة فيخلق لديك السلوك لامتلاكه كي تشيع دافعًا يسعدك، والثاني أن يصور لك أنك تنتهي وتنهار وتموت، وهذا المنتج سينقذك. إلا أن الثاني لا يحدث سريعًا مع الأسف. يقولون أن أصعب أنواع الموت هي الموت البطيء الذي يرتشفه الإنسان قطرة قطرة من كأس ممتلئ جدًا. كلما زاد وجعك زاد استعدادك لامتلاك أي منتج يخفي هذا الوجع. لذا لن أوجعك اليوم فقط بل سأوجوعك أطول فترة يمكنني أن أوجعك فيها كي تهرع لامتلاك علاج وجعك. لا يميل البشر لتصديق أنهم في خطر لدرجة التصرف الذي تمليه عليهم بسرعة. فهم يشعرون بالخطر، ثم يلجأون لطرقهم الخاصة أولًا، وحين يزداد التهديد يبدأون في البحث عن تجارب الآخرين، ثم حين يزداد مرة أخرى يبدأون في الاستماع للنصائح. ألا ترون أن الزلازل والبراكين التي يتم التحذير منها لفترة قصيرة لا يستجيب الجميع لخطة النجاة كما تُملى عليهم فيها في كثير من الأحيان؟!.  يكمن السبب الرئيسي في طول فترة الإيجاع في أن المنتج غالبًا لا يكون تأثيره بحجم علاج كل هذا الوجع. لذا فهو سيجد طريقه للسوق مرة واحدة وبشكل فائق الإنشار. سيُباع كله خلال يوم أو يومين. سيزيد الطلب مرة أخرى قبل اكتشاف الحقيقة، ربما مرة أو مرتين، عليك حينها أن تتريث في الإنتاج لأنك لا تعلم متى سيعرفون أنك بالغت في تسويق الوجع مقارنة بتأثير المنتج. لذا تجد أن منتجات الطواريء تنفذ سريعًا بشكل غير مبرر أحيانًا.
  الإعلام يجيد تصوير المتلقي المريض. بل ويجيد إيهامه بأنه مريض حين لا يكون مريضًا. تثبت العديد من الدراسات أن المتلقين يصبحون أقرب من الإعلام في حالات الخطر، لذا قد يلجأ الإعلام في كثير من الأحيان لتخليق الخطر والتسويق له كي تقترب منه أكثر. وهو أمر غير أخلاقي بالمرة. إذ ليس من العدل أبدًا أن تصور نصف كوب فارغ ولا تذكر أن نصفه ممتلئًا حتى لو كنت أنت لا ترى امتلاءه كإعلامي متشائم. أنت لا تقدم لنا رؤيتك للعالم طالما أنك لست صائع أكواب في هذا العالم. عليك أن تسأل صانع الكوب أولًا.
 ترى ذلك جليًا حين يركز الإعلام على تصوير الألم الذي هو لاحق بك أو سيلحق بك قريبًا من حدث ما لا يتم تقديم معلومات حوله. تكون القصة الخبرية بداية حول حدث صغير حقيقي ينتهي بكل آثاره، ثم يستغل البعض ذلك في التهديد بآثارها الغير حقيقية دون الاستناد لحقائق أو معلومات أو متخصصون في المجال تحت عباءة "يقول البعض، وتنتشر أنباء حول" دون نسبة شيء لأحد. عليك أن تنتبه للرجوع لمصدر المعلومات حول كل شيء، لا سيما في عصر صارت مواقع التواصل الاجتماعي فيه بمثابة دار للإفتاء الاجتماعي والاقتصادي بلا رجال فتوى متخصصون في كثير من الأحيان. عليك ألا ترى الوجع وحدع في الحياة مهما حدث. ابحث دومًا عن المعلومة الموازية للوجع حينها ستسطيع أن تزن الأمر بشكل أقرب للموضوعية وربما لن تشعر بالوجع.
 نجد حولنا بالتأكيد الكثير من الإعلاميين الشرفاء الذين لا ينساقون لتسويق أر مؤلمة لمجرد تحقيق مكاسب شخصية أو مؤسسية. لكنني هنا أردت التنويه عن شيء يجب أن ندرسه ونحذر منه في وقت صار كل منا إعلاميًا يستطيع إعادة بث فكرة أو خبر. أسعد الله كل حياتكم بلا أوجاع.