الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

في عيد ميلاده.. سامح قاسم يكتب: صلاح عيسى.. هل لديك أقوال أخرى!؟

صلاح عيسى
صلاح عيسى
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

فإذا ما سُئلت:
لماذا جئت:
فسوف أنشد:
قسما بالمبدع سببا
يا حبيبي..
إنك السبب!
وإذا ما سُئلت: هل لديك أقوال أخرى؟!
أقول: اكتهل القلب، لكن الحب لم يكتهل، والمجد للوطن الذى منحنا أفضل ما فينا حين علمنا أن نحبه.
هكذا قال صلاح عيسى أحد الكبار الذين قرروا أن يرحلوا واحدا تلو الآخر بعدما قالوا كل ما لديهم بصدق ودون مواربة ليتركوا الساحة للصغار لتغدو اللعبة سخيفة وبلا طعم.

صلاح عيسى

صلاح عيسى المناضل الذى عرف السجون والتشرد والجوع والمطاردة لا لمصلحة شخصية وإنما سدادا لثمن إيمانه بكل القضايا العادلة للكادحين.. من أجل القضاء على امتهان الإنسان لا لشيء غير إيمانه بشيء ما يعتقد أنه الصواب.
أحب الأستاذ الحق والخير والجمال، وكره كل محاولات إجبار الإنسان بالجوع أو القهر على أن يكون غير ما يريده لنفسه.

تشكل وعيه الأول مصادفة وعبر حكاية قرأها فى كتاب وصفه بأنه كان رديء الطباعة وزخرفى الأسلوب وعندما سمعته أمه هذه القروية الأمية بكت.
■ لكن ما هى هذه الحكاية يا عم صلاح؟
- تقول الحكاية إن فى إحدى القرى المجاورة لقريتى «بشلا» الواقعة فى نطاق مركز ميت غمر يوجد قبر وإلى جواره شاهد. ويقال إن هذا القبر لمحمد بن أبى بكر الصديق الذى قتله معاوية بن جديح ومنع عنه الماء وجره من أقدامه وأدخل جثته فى بطن حمار نافق وأحرقه حتى صار فحما، وأخذ خادمه بقاياه فدفنها فى قرية مجاورة لقريتى وترك إلى جوارها شاهدا.
منذ تلك اللحظة التى عرف فيها صلاح عيسى هذه الحكاية الأسطورية عن هذا الرجل الصالح الذى قُتل غيلة ومُثل بجثته نشبت فى قلبه كراهية غير محدودة لحصار الإنسان وامتهانه لمجرد أنه يؤمن بشيء، أو يناصر شيئا ويعتقد أنه الصواب، لم ينبذ شيئا أكثر من كل محاولات إجبار الناس على أن يكونوا غير ما يريدونه لأنفسهم تارة بالجوع وتارة بالقهر.
فى صباه وقبل ثورة يوليو ١٩٥٢ شهد صلاح عيسى المد الديمقراطى العظيم وتعلم فى محيط أسرته وتحديدا من والده الذى وصفه بأنه كان ليبراليا بالفطرة ووفدى الهوى رغم عضويته بالحزب السعدي.. تعلم قيم الليبرالية ومقت التعصب والجمود وترسبت فى أعماقه كراهية مركزة تصل إلى حد الاشمئزاز لكل من يحاول حرمان الإنسان من حقه الطبيعى فى أن يكون حرا، يعتقد ما يشاء، ويختار مصيره كما يريد، ويعبر عن نفسه تعبيرا حرا منطلقا، لا تحده قيود، ولا تقف أمامه حدود.
لم يبغض مقريزى العصر الحديث فى سنين دراسته الأولى مادة كما بغض مادة التاريخ والتى كانت تستفزه كتبها فيقص صورها ويعلقها على جدران غرفته وكأنه يعاقب مؤلفيها.

صلاح عيسى


■ لكن ما الذى صالحك على التاريخ يا عم صلاح؟
- فى يوم من الأيام عثرت مصادفة على كتاب صغير لأحمد بهاء الدين، كان الكتاب صغيرا ويحمل اسم «أيام لها تاريخ» وبمجرد أن قرأت صفحاته الأولى حتى غرقت فيه تماما ولم أتركه حتى أتممته للنهاية.
لقد فتح أحمد بهاء الدين أمام صلاح عيسى عالما رحبا من الحكايات والرموز والرجال بحق ووجد بينهم قوته عندما يضعف والعزاء عندما يعز العزاء، صادق معظمهم وشكا لهم من حصار الزمن وغالب معهم وبهم لحظات الابتلاء والخوف والاكتئاب.
كان التاريخ فى هذا الكتاب شيئا آخر غير هذه الكتب التى كانت تستفزه للدرجة التى جعلته يمزقها ويطوحها فى الهواء.. كان «أيام لها تاريخ» تاريخا حيا نابضا ودافئا، لهث خوفا وقلقا وإشفاقا على الرجال وهو يتابع عبر صفحاته حكاياتهم وهم يواجهون الخطر المحتوم ويتحدونه، ويصدون مطارق الزمن، ويعانون التشريد فى المنفى، والسجون، وعذاب الوحدة فى الزنازين الضيقة.
يقول الأستاذ: لقد فكرت كثيرا فى هذه الحكايات ووضعت مشروعا متكاملا لها وجمعت بعض المادة لكنى تركتها فى درج مكتبى ثلاث سنوات وانصرفت وراء أشياء أخرى لأحفظ توازنى لكى لا يختل، فى وقت كان جيلنا كله يتعرض لمظاهر فقدان الاتزان بعد النكسة.
■ إذن كيف خرج هذا المشروع إلى النور يا عم صلاح؟
- كان مقدرا لهذه الحكايات أن تظل مشروعا على الورق لولا حادث بسيط، ففى أحد أيام مايو ١٩٧١ جاءنى رسول من الأستاذ رجاء النقاش وكان يرأس آنذاك تحرير مجلة الإذاعة والتليفزيون، يسألنى عما أستطيع أن أساهم به فى تحرير المجلة. فكرت قليلا.. ثم تذكرت مشروعى القديم ذاك، سحبت ورقة وكتبته وأرسلته إليه.
فى مساء اليوم نفسه وجدت رسالة فى منزلى تقول: رجاء النقاش يريدك لأمر مهم فى مكتبه بالمجلة. ذهبت إليه وصافحته لأول مرة ولم نكن قد التقينا قبل ذلك أبدا وفى دقائق كان قد حسم الموضوع، طلب منى أن أكتب كل الحكايات وأن أحدد له موعدا يتسلم فيه أولها، وقبل أن أتكلم كان قد حدد الموعد بأسبوع، تعللت بالإجهاد وطلبت مهلة أخرى.. تفاوضنا قليلا.. أخجلنى إصراره وثقته بأننى أستطيع أن أفعل لو أردت.. وافقته من باب التورط وكتبتها بالفعل فى أسبوع، وبعد خمسة أيام وجدتها منشورة ووجدت رجاء النقاش يكلمنى طالبا فصلا آخر. وعندما قضت ظروف بأن يترك رجاء النقاش المجلة ظل مهتما بمشروعى ويلح علىِّ أن أستكمله ويحاول أن يجد له منبرا آخرا لينشره ويتحدث عنه بطريقة أخجلتنى دائما.
لم ينشغل صلاح عيسى فى مشروعه هذا غير بهاجس الحرية الذى كان الدافع الرئيسى والشريان الوحيد لكل كتبه التى تلته فيما بعد والتى رصد فيها كل الأزمات التى عانى منها الإنسان المصرى والعربى فكريا وسياسيا واجتماعيا.

صلاح عيسى


■ لكن لماذا قضية الحرية هى التى شغلتك يا عم صلاح؟
- أظن أن اهتمامى بقضية الحرية هو اعتقادى أنها حلقة رئيسية فى كل ما يواجه بلادنا من مهام.. من هنا كانت كتبى من مصر وكانت أيضا لها.. وإنى لأرجو أن تكون صلاة صوفية فى معبد الأم التى تعلمنا على يديها الحب والصبر والكبرياء.
■ هل لديك أقوال أخرى؟
- لا، لقد توقفت رئتاى وأريد أن أرتاح!
إذن توجه حيث وجه ربك الكريم مشفوعا بمحبة أهل الكتب وأهل مصر، ونسأل الله أن يلهمنا الصبر والسلوان.