الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

علِّي صوتك بالغُنا.. لسه الأغاني مُمكِنة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

أُقِرُّ أنا المذكور أعلاه.. أنني متورط تمامًا وبكامل إرادتي.. في تلك الحدوتة التي أكتب عنها، تلك الورطة الجميلة التي تملكتني منذ أكثر من خمسة وثلاثين عامًا مذ كان عمري عشرين أو يزيد.

عن ثلث قرن أو يزيد من العمر، أكتب، عن شبابيك عمرنا التي فتحناها مبكرًا على محمد منير وعبد الرحيم منصور، فاتَّسَعت رؤانا.. ولامسنا الحلم.. وملأتنا الدهشة.. وكأننا بنتولد من أول لمسة.. عن بريء.. أسمر بلون الشيكولاتة.. جاء من نوبة مصر الدافئة.. فاقتَحم حياتنا بثبات وثقة وتفرُّد.. كان عكس المرحلة تمامًا، فأنكره البعض، واندهش البعض، وخشى منه البعض، أولئك الذين أدْمَنوا المألوف والسائد، فناموا على هدهدات الرومانتيكية البليدة، وعلى ألحان التطريب، ومفردات القواميس المستهلكة، ومعاني الكلمات سابقة التجهيز، والألحان المكرَّرة، تحت الطلب، خرج الفتى الأسمر أشعث الشعر والروح، يلهث من غيرته على بلاده.. البسيط، من وسط الدايرة، كأنه مُوكل بفضاء الروح يزرعه، يُرتِّب الطبيعة، يُهندِم الأحاسيس والمشاعر، يدعونا، ليس فقط لأن نسمعه بعقولنا ووجداننا، ولكن -وعلى خُطى الجد العظيم سيد درويش- يَسمَح لنا أن نشاركه الغناء.. غنَّى لنا.. وغنَّيْنا معه.

علَّمنا حيلة جميلة وخبيثة، نحن العشاق الذين ينتابنا الخجل، ولا نملك شجاعة البوح بمشاعرنا لحبيباتنا -وقتها- كنا نهمس أو نُردِّد على مسامعهن مقاطع من أغنياته.. علموني عنيكي أسافر.. يا عروسة النيل يا حتة من السماء.. يلي صورتك جوه قلبي ملحمة.. خلط الحبيبة بالوطن، فتوحدت العيون والقلوب.

فإن أصاب السهم قلب المحبوبة، خير وبركة.. وإن كان غير ذلك.. نراوغ ونقول: إنما كنا نقصد.. الوطن.. لقد منحتنا كلمات عبد الرحيم منصور وصوت وأحاسيس محمد منير، راحة وعمقًا وخصوصية.. أغاني منير، وقصائد أحمد عبد المعطي حجازي، ومحمود درويش.. شكَّلت مفردات رسائل غرامنا الأول.. وحِيَلنا الجميلة للتواصل مع حبيباتنا، فى عشرينيات العمر.

بدأ منير مشواره الغنائي فى العام ١٩٧٧، ومنذ ألبومه الأول.. ظهر منير كمشروع غنائي متكامل.. رؤية جديدة ومغايرة.. على جميع المستويات، كلمة، ولحن، وأسلوب غناء.. ليس مجرد حلاوة صوت.. الأغنية عند منير موقف ورؤية وأسلوب حياة.. وهنا تجدر الإشارة إلى رفاق المشوار، المبدعين الكبار: عبد الرحيم منصور، وأحمد منيب، ويحيى خليل، وهاني شنودة، نحن أمام حالة متناغمة متفاهمة، المشتركات الفكرية والثقافية والفنية بينهم كثيرة ومتحققة؛ لذا جاء الإبداع الجماعي على درجة عالية من الإتقان والجودة، هنا كمن سر النكهة والطعم المتميز المتفرد لتجربة منير، كان فريق العظماء على مستوى إبداع، حنجرة ووجدان وعقل منير، وكان هو على مستوى إبداع خلطتهم العبقرية، فى الكلمة واللحن والتوزيع.

أغاني منير.. حواديت للوطن

دعانا منير أن نكتب، أسامينا، فى دفتر الوطن.. دعانا.. أن نتكلم ونبوح.. ليه تسكتي للزمن.. اتكلمي.. ليه تدفعي وحدك التمن.. اتكلمي..

عندما أصاب الغدر والإرهاب قلب الوطن.. غنَّى منير، قلب الوطن موجوع، وعندما حاول اللصوص المخادعون، تجار الدين سرقة مصر.. وتجريف تاريخها وثقافتها وفنونها.. وتحريم الفرحة على المصريين.. كانت أيقونة منير وصرخته الخالدة، علّي صوتك بالغنا.. لسه الأغاني ممكنة.. ولو في يوم راح تنكسر.. لازم تقوم واقف كما النخل باصص للسماء.. ولا انهزام.. ولا انكسار.. ولا خوف ولا.. ولا حلم نابت في الخلا.

وكانت أغنية منير، إزاي، مانفيستو احتجاج الإنسان ضد أي نظام متجبر، في أي زمان وفي أي مكان.. رددها الملايين في كل الميادين.

إزاى ترضيلي حبيبتي.. أتمعشق اسمك وانتي.. عمالة تزيدي في حيرتي.. وما انتيش حاسة بطيبتي إزاي؟

إزاي سيباني في ضعفي.. طب ليه مش واقفة في صفي.. وأنا عشت حياتي بحالها علشان ملمحش في عينك خوف.

منير.. انحاز للبسطاء.. الفلاحين الغلابة.. العمال الطيابة.. غنى للغريب وبطولاته.. للجنود.. للبنت أم المريلة كحلي.. للصليب.. للهلال.. للقدس.. للانتفاضة.. للشهداء.. للحياة.

وببراعة ووعي.. أعاد منير اكتشاف كنوز التراث الغنائي، ليس فى مصر فقط، وإنما على امتداد الوطن العربي.. من الجزائر والمغرب، إلى تونس وليبيا، ومن السودان، إلى لبنان والأردن وفلسطين.

من حق منير أن يزهو بما قدم لنا.. ومن حقنا، وواجبنا أن نزهو به، وأن نعلن انحيازنا ومحبتنا له.

واليوم.. في عيد ميلاده.. نؤكد له بعبارات واضحة..

أنت يا صديقنا.. ملك الغنا.. مغنواتي عصرنا وجيلنا.. ومغنواتي المحروسة.. وستظل كذلك ما حييت، وما حيينا، وما ظل الوطن..

لا أود ولا أرغب أن أبدو من خلال سطوري تلك، في ثوب المؤرخ الفني، أو الناقد.. أنا أكتب إقراري هذا كمتلقٍ.. محب.. ومتورط في عالم مُنير الغنائي.. مُنحاز نعم.. أقول ما أرى.. ما أشعر.. ما يخصني في تلك.. الحدوتة.. ولكني في ذات الوقت أعلم أن الملايين يشاركونني ذلك الحب والانحياز والعرفان لمنير.. منير عصرنا وحدوتة روحنا.. دُمتَ يا صديقنا.. ودامت أغنياتك.. وكل عام وأنت بيننا تُمتِّعنا، وتُطرِبنا، وتُشعِرنا بنبض الحياة..