الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

عبدالرحيم علي يكتب: دروس الزعيم خالد محيي الدين.. لا شيء يعلو فوق قيمة الوطن والمصداقية قولًا وفعلًا

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

تعلمت من الراحل دروسًا كبيرة ما زالتْ تسكننى وتمنحنى اليقين، وما زلت أمنحها لأولادى كل يوم

الدرس الأول: الحفاظ عن كرامة مَن يعملون معى ولو كانوا فى عمر أبنائى

الدرس الثانى: لا خذلان للمحرر إلا إذا أخطأ فى قول الحقيقة وليس العكس

الدرس الثالث: عدم إطلاق الشائعات التى لا تمت للحقيقة بصلة وتضر بالأمن القومى للبلاد

انتصر لى الزعيم أمام وزير الداخلية حسن الألفى.. وكنت أصغر عضو باللجنة المركزية للحزب

الدكتور رفعت السعيد وخالد محيى الدين أول مَن ساعدانى ووقفا بحانبى فى معركتى الطاحنة ضد جماعات العنف والإرهاب

يمضى بنا الزمن ونتجرع الحزن دومًا برحيل الأحبة، واحدًا تلو الآخر، ونقف مشدوهين أمام ذكراهم، واليوم يمر مئة عام على ميلاد الزعيم الإنسان خالد محيى الدين الذى أدين له بالفضل الكثير.
عندما قابلته للمرة الأولى كنت صحفيًا شابًا لم أتجاوز الثالثة والعشرين من عمرى، أتيت من صعيد مصر أحلم بالحرية والعدالة الاجتماعية بحق الفقراء فى لقمة عيش نظيفة وشربة ماء وعلاج مجانى يليق بمعاناتهم، لم أجد غير باب اليسار مفتوحًا لى على مصراعيه، أنا ابن الفقراء نحيل الجسد والروح، ألهث من غيرة على بلادى.

استقبلنى العظيم خالد محيى الدين بمكتبه فى «واحد شارع كريم الدولة»، كنت مزهوًا بنفسى لكن ليس للحد الذى أرى فيه الزعيم وجهًا لوجه، «الصاغ الأحمر، عضو مجلس قيادة ثورة يوليو، زعيم اليسار».
سلم عليّ بترحاب وكأنه يهدئ من روعى قائلًا: «أراك غدًا فى التاسعة وأنهى اللقاء»، خرجت غير راضٍ فقد كنت أعتقد أن المقابلة ستطول، سيسأل عن أحوالي، كيف أعيش فى قاهرة المعز بعد أن غادرت بلدتى فى الصعيد، بناءً على استدعاء من الجريدة للعمل مندوبًا لها فى وزارة الداخلية، اعتقدت أنه سيسألنى كيف سأتعامل مع هذا المرفق الحيوى المهم، سيطلعنى على الخطوط الحمراء التى لا يجب عليّ أن أتجاوزها، ولكن اللقاء لم يدم أكثر من دقيقتين وانتهى بموعد صباح اليوم التالى.
قضيت ليلتى أفكر تُرى ماذا سيقول لى الأستاذ خالد، وظللت أجهز أجوبتى المنطقية على أسئلته المفترضة. وفى الصباح ذهبت مبكرًا، شربت قهوتى من أيدى عم عبده رحمه الله، وانتظرت مع «هدى» سكرتيرة الزعيم فى مكتبه.
جاء الأستاذ خالد فوقع بعض الأوراق سريعًا ثم اصطحبنى وهبطنا درج السلم المؤدى إلى الشارع ثم دلف بى إلى سيارته، سيارة «لادا ستيشن» خضراء، لا أدرى لماذا تخيلت أن سيارة الزعيم لابد أن تكون مرسيدس سوداء ولكن خابت توقعاتى.
فى السيارة قال لى الأستاذ خالد: «هل أنت متزوج؟ قلت له: نعم، ولديك أبناء؟ قلت لدى ابنة واحدة، وعندما سألنى عن اسمها كنا قد وصلنا إلى باب مبنى محافظة القاهرة، كان المحافظ فى انتظار الزعيم، حيث بادره الأستاذ خالد بالقول لقد أتينا بهذا الشاب من الصعيد ليكون مندوبًا للجريدة فى وزارة الداخلية وهو متزوج ولديه طفلة لذا نريد له شقة بمساكن الصحفيين».
اندهشت كما اندهش المحافظ اللواء عمر عبدالآخر، وقال له هل أتيت سيادتكم بنفسك لكى تطلب هذا الطلب البسيط، وعلى الفور أنهى المحافظ الإجراءات الإدارية وبعد ساعتين كنت قد حصلت على مفتاح السكن فى قاهرة المعز مصحوبًا بإعفاء من المقدم.
درس بسيط فى إجراءاته، عميق فى معانيه، أعطاه لى الزعيم فى أول أيامى فى بلاط صاحبة الجلالة، كيف يحافظ القائد والزعيم والمسئول عن كرامة مَن يعملون معه ولو كانوا فى عمر أبنائه.
لم يمض على هذا الحدث سنوات قليلة حتى تصادمت فى أول حياتى بوزير الداخلية حسن الألفي، أثناء معركته مع جريدة الشعب، فقد تناولت فى تقرير لى نقاط الضعف فى موقف الوزير بتلك المعركة، الأمر الذى دفعه إلى استصدار تعليماته بعدم دخولى الوزارة، ولم يسمح لى بالدخول مرة أخرى إلا بعد تدخل المرحوم اللواء رؤوف المناوي، لينهى الموقف شريطة أن أبلغ الزعيم خالد محيى الدين برغبة الوزير فى أن يزوره بمكتبه بالوزارة فى أسرع وقت.
أخبرت الأستاذ خالد برغبة الوزير حسن الألفى فى لقائه فلم يتردد الرجل، حددنا الموعد سريعًا وذهبت معه، لم أعلم أنهم يخططون لكى يوقعوا بينى وبين الزعيم حتى أترك موقعى كمندوب لجريدة الأهالى بوزارة الداخلية، ويأتون بشخص بعينه كان يعمل معهم منذ فترة بعيدة، وكان مريحًا لهم إلى حد ما، حاول اللواء رؤوف المناوى إقناع الأستاذ خالد بأن يتم اللقاء مع الوزير دون حضوري، وكنت أرى وجاهة فى الأمر، فلربما هناك أشياء ستحكى فى هذا اللقاء لا يجب عليّ أن أعرفها، ولكننى فوجئت بالأستاذ خالد يتمسك بحضوري، حيث رفض بلطف طلب اللواء رؤوف المناوى رحمة الله عليه، أننى لا أخفى شيئا عن أعضاء الحزب وكوادره خاصة من الشباب فى إشارة إليّ، وقد كنت، آنذاك، أصغر عضو باللجنة المركزية للحزب.
فى اللقاء حدث ما كان يتوقعه الأستاذ خالد، وما فهمته منه فيما بعد، حيث عاتبه الوزير لموقفى من معركته مع جريدة الشعب، وألمح إلى ضرورة تغييرى بشخص آخر، فانبرى الأستاذ خالد للدفاع عنى دفاعًا لم أتوقعه على الإطلاق، خاصة فى مواجهة وزير الداخلية، وفى نهاية اللقاء أوضح الأستاذ خالد للوزير طريقة اختيار المندوبين فى جريدة الأهالي، الناطق الرسمى باسم حزب التجمع، حزب اليسار المصري، حيث لا يجوز لرئيس التحرير تغيير المندوب إلا وفق قواعد محددة وأنه سيجلس معى شخصيًا لحثى على مزيد من التعاون، وأنه ضامن لى بشكل شخصى وضامن لحسن أدائى.
خرجت من اللقاء وأنا مزهو بقائدى وبحزبى وبجريدتي، عاقدًا العزم أن أقدم الغالى والنفيس فى سبيل رفعتهم.
كان هذا هو الدرس الثانى الذى أعطانى إياه الأستاذ خالد محيى الدين، أن تقف مع المحرر طالما هو على حق فلا تخذله إلا إذا أخطأ فى قول الحقيقة وليس العكس. ومرت السنون وجاء يوم رأيت فيه الوجه الآخر للزعيم، فقد كان غاضبًا جدًا منى فاستدعانى إلى مكتبه وقال لى بلهجة حادة: «ماذا كتبت اليوم؟ قلت له كتبت تقريرًا حول القبض على مجموعة من ضباط الشرطة والجنود الذين يبيعون الذخيرة والسلاح الميرى للإرهابيين فى الصعيد، سألنى بلهجة حادة: وهل هذا مؤكد؟ قلت له معلوماتى تقول بذلك وهناك ثلاثة ضباط على الأقل تم اعتقالهم قبل يومين ومودعين بسجن بنى سويف العمومي، أحدهم أعرفه معرفة شخصية وأعرف عائلته»
قال لى الأستاذ خالد لقد اتصل بى الوزير غاضبًا ومحتجًا وقال لى إن الخبر عارٍ تمامًا من الصحة، وأنه سيعقد مؤتمرًا صحفيًا عالميًا اليوم لتكذيبه، غدًا تقدم استقالتك على الفور أو نصدر قرارًا بفصلك.
خرجت من مكتبه وأنا محطم تمامًا، فها هو سندى فى الحياة، بعد الله، يخذلنى ويتخلى عني، هكذا أحسست، لم يكن هو فقط من فعل ذلك فى ذاك اليوم الكئيب، ولكن الجميع حتى أصدقائى فى الوزارة أغلقوا الخطوط فى وجهي، لم يعد أحد قادرًا على استقبال مكالمة مني، خوفًا من الوزير.
سلمت أمرى إلى الله وكنت أعرف أننى على حق، ذهبت عند أحد الأصدقاء وانتظرت صدور الحكم بإعدامى.
فى الخامسة تحدثت مع صديقى العزيز محمد صلاح الزهار، وكان مندوبًا لـ«الأخبار» فى الوزارة، لكى أطمئن ماذا حدث، إذ لم تكن هناك مواقع إنترنت تنقل الخبر فى لحظته، وعندما جاءنى صوته ضاحكًا على الجهة الأخرى اطمأننت، قال لى «الزهار» لقد أنقذتك العناية الإلهية، فقد ألغى الوزير لسبب غير مفهوم المؤتمر الصحفى واكتفى ببيان اعترف فيه بالواقعة، وقال إن الوزارة ألقت القبض على ثمانية وعشرين ضابطًا وجنديًا متهمين ببيع الذخيرة الخاصة بالتدريب للإرهابيين فى الصعيد.
تنفست الصعداء، وفى الصباح التقيت الأستاذ خالد محيى الدين بوجهه الآخر الذى أعرفه ويعرفني، ليشد على يدى ويتمنى لى التوفيق بابتسامة رقيقة لم تفارق خيالى حتى الآن.
كان هذا هو الدرس الثالث، الذى أعطاه لى العظيم خالد محيى الدين، أننى سأساندك طالما كنت على حق مهما كلفنى ذلك، لكننى سأغضب أشد الغضب وسأتخلى عنك لو كنت كاذبًا أو مهملًا فى عملك، إلى حد إطلاق الشائعات التى لا تمت للحقيقة بصلة، والتى تضر الأمن القومى للبلاد.
وتمضى الأيام وتأتى الصفقة الكبرى بين الحكومة، آنذاك، وجماعات العنف الدينى فى مصر. وكعادتى أقف وحيدًا أدافع عن فكرتى فى أن هذه الصفقة ستكلف البلاد الكثير إن لم يكن اليوم فغدًا، فهؤلاء الشباب يعملون وفق فقه الضرورة، تلك التى تحتم عليهم إجراء مصالحة مع الدولة فى أوقات المِحن والضعف، خاصة إذا كانت دولة قوية ذات شرطة وجيش قوي، كما أكدوا فى مراجعاتهم.
لم يكن هناك موقف مبدئى لتلك الجماعات من ممارسة العنف ضد الدولة والمجتمع قدر ما هو موقف مبنى على فقه الضرورة، حتى إذا ما تبدلت المواقف وضعفت الدولة كما حدث بعد ٢٥ يناير ٢٠١١ كانت كوادر تلك الجماعات، كما توقعت، فى طليعة من نهشوا لحمها وهرسوا عظمها وبنوا به سلمًا للصعود إلى السلطة.
كان المرحوم الدكتور رفعت السعيد والزعيم خالد محيى الدين أول مَن ساعدانى ووقفا بحانبى فى تلك المعركة الطاحنة، متصدين لتهديدات وزير الداخلية آنذاك، الذى أنكر وجود الصفقة وادعى أنها من بنات أفكارى، لكن تمضى الأيام وسرعان ما تتكشف كل الأمور.

لم يكن هذا الدرس بالطبع من دروس الزعيم الأخيرة، فقد تلتها وسبقتها دروس عديدة تحدد معدن الرجل وقيمته وإيمانه العميق قولًا وفعلًا بالحرية وبالإنسان، تلك الدروس الكبيرة ما زالت تسكننى وتمنحنى اليقين وما زلت أمنحها لأولادى كل يوم، إحساسا منى بأننى مدين بها له ولهم.
فعم مساءً يا زعيم، امش الهوينا، وتذكرنا إذا اتّسع الوقت.