السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

كي لا نكفر بجميع الرموز

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

التاريخ هو صندوق الدنيا، المرجعية الرئيسية لتوطين الأفكار، ودعم السياسات، ولم شمل المجموعات، وتوحيد مصائر البشر وتوجيههم لما فيه خيرهم وصلاحهم.

فإذا ما أردنا الحديث عن دور وطني أداه جيش مصر مثلًا، ذكرنا المُنظِّرين بعرابي وموقفه من تغلب المستعمر، وإذا ما ابتغينا دعم اللُحمة الوطنية بين عنصري الأمة، حدثونا عن ثورة 1919 وتعانق الهلال والصليب في الرايات، وإذا حاولنا التأكيد على أهمية القضية الفلسطينية لهام بنا طيف صلاح الدين وكفاحه لاستعادة بيت المقدس، وإذا ما رغبنا في إضفاء القداسة على جغرافيا حدود الدولة لوجدنا من يذكرنا بمينا موحد القطرين وأحمس طارد الهكسوس، وإذا ما احتجنا التأطير لوحدة جغرافية أكبر لوجدنا من يروي عن أيام الحكم المشتركة بين مصر وسوريا، أو مصر والسودان، أو مصر وما عداها من الأمصار المجاورة.

فالتاريخ هو الشاهد، وأداة التحقق، ووسيلة الاستنتاج، به تستحضر الأمم المؤلم والمجيد من تاريخها، فتخرج بدرزينة من العبر والدروس، تسهم في بناء هويتها ومنجزها الحضاري المتفرد.

في ديمومة هذه العملية الأبدية، تنتقل العظمة في الوعي الجمعي من الحدث العظيم، إلى مُجري ذلك الحدث العظيم، فيكون الشخص العظيم هو من صنع بالضرورة أمرًا عظيمًا، هكذا تضحى رمزية الشخص أكثر بروزًا ورسوخًا في سردية الحدث، فتنشأ أسطورة البطل المنقذ، أو البطل الموحد، أو البطل طارد الأشرار.

لطالما ساعدت سير وأقاصيص هؤلاء الأبطال العِظام في بذر بذور الوطنية والأممية والانتماء في نفوس النشأ، غير أنه ومنذ فترة ليست بالقصيرة ومعاول هدم طلاب الترند وراغبي الظهور الإعلامي تتوالى للهدم المنظم والطعن المرتب في رمزية هؤلاء. يسايرون فِعال المستشرقين زمن الاحتلال الأجنبي لبلادنا، إذ كان المستعمر قديمًا يبتغي بتشويهه للرمز وبذره بذور التشكيك ما يسمح بتغوله في حياة محكوميه، وخلخلة بنيانهم الثقافي والديني لإعادة تشكيله بما يتوافق وهواه، فإن طلاب الترند هذه الأيام يهدمون كما المستعمر قديمًا، لكن دون أن يقدموا بنيانًا بديلًا.

من الواجب هنا التحذير فالهدم المنظم لن ينتج إلا مجموعات مشردة لن تجد بنيانًا فكريًا أو وطنيًا أو أمميًا أو حتى دينيًا يجمعها ويأويها من غائلة الأيام، ومحاولات الغزو الثقافي، والتغريب، والتخريب.

سرعان ما سيفقد المبتورون ثقتهم بماضيهم وجميع ثوابتهم الدينية والفكرية والوطنية، ستمتد آفة عدم ثقتهم هذه لتشمل جميع المؤسسات، سيصابون بداء التطرف والعنادية، انتصارًا لهوية فردانية جديدة.

والتطرف نوعان، يميني حد التحاق الضحية بالجماعات الظلامية المحاربة للوطن، ويساري حد الإلحاد والخروج كلية من عباءة الدين. 

للتفريط في الهويتين الدينية والوطنية أشكال وأطوار نفسية عدة، من بينها الانسحاب التدريجي من العالم، وهو ما نجده عاملًا مشتركًا لدى من اكتئب فألحد، ومن اكتئب فتطرف.

في حالة الملحد، فإن إلحاده سيدفعه إلى الإنكباب الشهواني على الملذات التي حرم منها طويلًا، وهو يبتغي من وراء اختبارها السعادة السابغة، فإن لم يجدها في إلحاده، عاد إلى اكتئابه وانسحب من حياته العدمية وانتحر.   

وهو ما لا يختلف عن من أدى به اكتئابه إلى التطرف، إذ تفرُغ حياته من مضمونها، تبعًا لمشاعر الظلم والضيم الذي يحس به من تغلب إحدى القوى القاهرة عليه، ما يجعل من الماليخوليا الدينية خاصته، يأس من الزمان وهرب إلى يوم الحساب.

فهو لا يعتقد بوجود مستقبل يوتوبي أو طوباوي بالإمكان تحقيقه، فليس بالإمكان أفضل مما كان، وكل ما كان ممكنًا قد منح بالفعل في الماضي، أما المستقبل فمحكوم بمصير لن يلحق بحاضرنا إلا الإفساد.

هكذا يقوده مزاجه السوداوي لأن يتشبث تشبثًا فرديًا ومفرطًا في ما يظنه الأصل عبر الرغبة الحثيثة في العودة إليه، وهو في عودته إلى الأصل ينسحب من العالم، وانسحابه من العالم له دلالاته، ويضحى ذلك مرئيًا بلباسه الذي يرتديه، أو مبذولًا في طقوسه التي يمارسها، أو معروضًا بتفجير جسده وتحويله إلى أشلاء في فضاء مشهدي، يعرض فيه خروجه الدراماتيكي من العالم الدنيوي، شوقًا إلى الأصل الإلهي في واحدة من العمليات الإنتحارية التي نسمع بها كثيرًا. 

الأمر الذي يعني أن الموت هو النتيجة الحتمية والأخيرة لكلا النموذجين.

الموت قد يصيب بعض الأفراد، أما الجدب والبوار فإنه سيصيب الحياة الفكرية برمتها. أقول إنه من الحتمي أن نفهم هنا أن التشكيك إلى ما لا نهاية لا يفيد، لن يؤدي بنا إلا إلى الجهالة بكل شيء، وفقدان كل رابط يربطنا بأي معنى سامي، وعليه فإن حماية اليقين العام مسألة أمن قومي.

ليس انتصارًا لصلاح الدين، أو خالد بن الوليد، أو للأقصى الذي اتضح لدى البعض أن مكانه في أراضي قصية لا علاقة لها بالقضية الفلسطينية، لكن شفقةً على بلادنا وقد تنازعتها جميع التيارات كأطوار الحمى، فما عادت تصلح لأن تكون عربية، أو إسلامية، أو حتى مصرية متفردة ومستغنية عن غيرها. فكان المآل أن صرنا فُرادى يهيمون في فضاء سرمدي عرضة لمختلف الإختراقات.