الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الخط العربي في الصين.. رحلة عبر التاريخ

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

 قبل سنتين ونصف تقريبًا، جذب فنان وخطاط صيني أنظار الجمهور المصري بمهارته في رسم الحروف العربية، واندهش الحضور من الخطاط الصيني يوسف جيمين يانغ، نائب الأمين العام للجمعية الإسلامية ببكين، ولقدرته على المزج بين الحرفين الصيني والعربي ليسطر في النهاية الحكمة النبوية المشهورة «اطلبوا العلم ولو في الصين».
"هذه أول معارف تشكلت للعرب المسلمين تجاه الصين"، هكذا يُشير «يانغ» للوحته متحدثًا للجمهور، ما جعل المشاركين في ورشة الخط يتهامسون فيما بينهم مُشيدين ببراعة الفنان الذي لا يُجيد العربية بشكل تام، بل يساعده عليها أحد مُترجمي المركز الثقافي الصيني بالقاهرة من خلال مشاركته في النسخة الرابعة لملتقى القاهرة الدولي لفن الخط العربي، الذي استضافه قصر الفنون بساحة دار الأوبرا المصرية أواخر العام 2018م.
أثار دهشتي، وشجع ذهني على استعادة جذور العلاقات بين العرب والصين حتى ما قبل وصول الإسلام إلى هناك على يد عدد من التجار، فإن العرب المسلمين تناقلوا فيما بينهم حكمة منسوبة للنبي توصي بطلب العلم حتى لو كان في الصين، ما يُوحي بضرورة طلب العلم رغم بُعد المسافة بينهم وبين الصين، ثم حدث اتصال قوي وسياسي فيما بعد.
وفي كتابه «الصين وفنون الإسلام» نقل الدكتور زكي محمود حسن أن المصادر الصينية ذكرت المسلمين لأول مرة في بداية القرن السابع الميلادي، وأشار المؤرخون الصينيون إلى الدين الجديد في «مملكة المدينة»، وذكروا مبادئ الإسلام قائلين: إنها تختلف عن مبادئ بوذا، وأن أتباعها لا تماثيل في معابدهم ولا أصنام ولا صور، مضيفين أن فريقًا من المسلمين قدموا إلى «كنتون» في فاتحة حكم «تنج»، وحصلوا من إمبراطور الصين على الإذن بالبقاء فيها، واتخذوا لأنفسهم بيوتًا جميلة، تختلف في طرازها عن البيوت الصينية، وكانوا يطيعون رئيسًا ينتخبونه من بينهم.
في ورشة "يانغ" بقصر الفنون، طالع الجمهور المشارك في الورشة رسمًا للخط العربي لكن برؤية صينية، وكلمات صينية في شكل عربي، وبعض آيات القرآن الكريم ممشوقة بأشكال جمالية مركبة ومتناسقة، يتقنها الفنان الصيني الذي شارك بعدد من لوحاته في المتاحف الصينية، كما حرص على اقتنائها هواة وسياسيون أُعجبوا بقلمه وريشته. 
انتظرته لحين الانتهاء من ورشته، كنت أحد الحاضرين، ومن محبي وعُشاق هذا الفن العريق، ولدي رغبة في الحديث معه باستفاضة عن تجربته الثرية ورحلته مع فن الخط العربي في الصين.
«إنها لغة جميلة للغاية، أدركت هذا من خلال تعاملي مع حروفها، المليئة بالروحانيات، والقابلة للتشكيل والزخرفة»؛ بهذه الكلمات حاول «يانغ» وصف علاقته باللغة العربية، وعرفت أنه يُجيد اللغة الصينية والإنجليزية أيضًا، ورغم براعته في رسم الخط العربي وإدراك أسرار حروفه فهو لا يُجيد التحدث بهذه اللغة التي وصفها بالجميلة، وهو نعت نابع لا من نطقه لها، ولكن من تعامله مع جمال وزخارف حروفها، خاصة أنه استخدم الخط العربي في قسم تدريب اللغة العربية بمركز التعليم العالي في الصين، وكان أستاذًا زائرًا للمعهد الإسلامي بشنيانغ (تأسس في مارس 1983م) والمعهد الإسلامي ببكين (تأسس في أبريل 1986م).
«فن الخط العربي أعلن عن وجوده منذ اللحظات الأولى لانتشار الإسلام في الصين، منذ بداية طريق الحرير الأول، اللاعب الأساسي في اتصال الشعوب، فضلًا عن تأثيره على حركة نمو وتقدم العديد من الحضارات القديمة»؛ يلفت «يانغ» أثناء حديثه عن تجربته مع فن الخط إلى دور المشروع الصيني الأضخم في بناء التواصل والنمو. 
هذا المشروع وصفه عضو اللجنة القيادية الدولية للمنظمات غير الحكومية لدول طريق الحرير، الدكتور عصام شرف، رئيس وزراء مصر الأسبق، بالذي «يحقق المعادلة الصعبة لأن العالم في أمس الحاجة إلى مجتمع جديد أكثر رحمة وتفهمًا وإنسانية، كما أن الطريق الجديد يعمل على إعادة التوازن لميزان العدل المفقود، والإنسانية المهدرة حاليًا».
يستكمل حديثه: تختلف اللغة الصينية كثيرًا في كتابتها من حيث الشكل والمضمون، ويتميز الخط الصيني بالأصالة والجمالية أي ما يسمى بحرية الخطاط في الكتابة بأسلوبه الحر، بينما الخط العربي في مفهومه هو فن وتصميم الكتابة في مختلف اللغات التي تستعمل الحروف العربية (كالفارسية، والكردية، والأوردية، والسواحلية، والأذربيجانية، والكشميرية) وتتميز الكتابة العربية بكونها متصلة مما يجعلها قابلة لاكتساب أشكال هندسية مختلفة من حيث المد، والرجع، والاستدارة، والتزوية، والتشابك، والتداخل، والتركيب.
وبحسب رؤيته فإن فن الخط يقترن بالزخرفة العربية، فهو يستعمل في تزيين المساجد والقصور، بالإضافة إلى تحلية المخطوطات، ويُعد فن الخط أحد المعالم الرئيسية للفنون الإسلامية ذات القيمة الجوهرية التي تفخر وتتباهى بها أي أمة، ذلك الخط الذي ينفرد دون سائر الخطوط التي عرفتها البشرية بأنه استخدم كعنصر زخرفي في زخرفة العمائر والمنتجات الفنية المختلفة، بالإضافة إلى دوره في تسجيل اللغة العربية، فنحن نستخدم الخط العربي للتعبير عن الثقافة وتعريف الصينيين عليه، بهدف التعارف على المداولات الثقافية الصينية من خلال طريقة التناول، حتى يتمكن المزيد من الناس التعرف على الثقافة الصينية وتبادل الخبرات. 
"التشابه بين الخط العربي والصيني يكمن في أن كليهما استعمل قديمًا لتدوين القصائد الشعرية القديمة"، هكذا أوضح "يانغ"، مضيفا "أن الفرق بينهما يكمن في أدوات الكتابة، فيستخدم الخطاط الصيني الفرشاة، وورق الأرز في الكتابة، بينما يستخدم الخطاط العربي القلم الصلب، وورق الكوشية الناعم أو الورق المثقوب في الكتابة أيضًا. 
وعلى وقع التشابه بين الخطين، فإن الأختام الصينية المربعة لعبت في الماضي دورًا في ابتكار الخط الكوفي، وفق ما يذكر زكي حسن من أن رسوم الأختام الصينية وما عليها من كتابات زخرفية الشكل، نالت على إعجاب الفنانون الإيرانيون، وكان ذلك دليلًا على أساس ابتكارهم كتابة الخط الكوفي المستطيل ذي الأضلاع، وترتيبه في مساحات مربعة وأخرى مستطيلة، بحيث يبدو عظيم الشبه بتلك الكتابات الزخرفية الصينية، وقد ذاع استخدام الخط الكوفي المستطيل في زخرفة العمائر بين القرنين السابع والحادي عشر بعد الهجرة، والثالث، والسابع عشر بعد الميلاد.
يخبرنا "يانغ" أن المساجد الصينية تضم مراكز لتعليم فنون الخط العربي، كما أن عدد منها مثل مسجد "نيو جيه" و"شيان" و"دونغسي" في بكين تقتني بعض نسخ القرآن الكريم المخطوطة بيد خطاطين ماهرين، وعادة ما يكون إمام المسجد يتمتع بمثل هذه المهارات، وهو ما تفخر به دولة الصين.
يلفت الفنان الصيني إلى أن القليل من الشعب الصيني يعرف العربية -تشير بعض التقديرات بوجود نحو 200 مدرسة إسلامية تسهم في تخرج 4000 طالب سنويًا بينما يتعلم حوالي 100 ألف طالب للغة العربية في المساجد- فضلًا عن المسلمين الذين يقتنون لوحات تحتوي على كتابات عربية مزخرفة، يحبون تعليقها فوق جدران بيوتهم.
من المثير للانتباه أيضًا في هذه الورشة الفنية ملاحظة استخدام الفنان نوعًا من خامات الورق ذات اللون الأحمر، سرعان ما قادني تفكيري للربط بين اللون الأحمر وبين دولة الصين ذاتها التي تفضل هذا اللون خاصة، وهو أحد الألوان المعبرة عن شعارات الحزب الشيوعي الصيني، الذي تأسس في العام 1921م ويمر بمئوية تأسيسه في البلاد العام الحالي 2021م.
"كل الإمضاءات في الصين يسودها اللون الأحمر"؛ قررت أن أسأله عن علاقتهم باللون الأحمر، ليبتسم "يانغ"  كأنه تفهم الأفكار التي دارت بداخلي، ليشرح لي دلالة هذا اللون في دولة الصين تحديدًا: هو واحد من المجموعة التي يطلق عليها الألوان الدافئة أو الساخنة، لأنها تميل للضوء وجذب الانتباه، وتستخدم عادة لإظهار السرور، كما أنه رمز البهجة لدى الشعب الصيني. مؤكدًا أنه عقب الانتهاء من كتابة اللوحات تُدمغ باسم الفنان المدوّن للوحة مستخدمًا اللون الأحمر أيضًا.
يعود تطور الخط العربي في الصين وتأثره برؤية الفنان الصيني لأزمان بعيدة استقر فيها الإسلام في الصين، ومنذ ما يزيد عن مئة سنة تحدث عن هذه العلاقة الأستاذ عبد الفتاح عبادة في كتابه الذي ألفه في العام 1915م بعنوان "انتشار الخط العربي في العالم الشرقي والعالم الغربي" وأعادت نشره دار الكتب والوثائق القومية في العام 2017م بتقديم من رئيسها الأسبق الدكتور أحمد الشوكي.
وورد في الكتاب أن المسلمين في الصين يستعملون الخط العربي من زمان بعيد في كتابة النصوص الدينية العربية كالقرآن وترجماته وكتب الحديث والفقه.
وحكى "عبادة" أنه شاهد في العام 1902م نسخة خطية من كتاب بعنوان "مختصر الأحكام الإسلامية" بحوزة عالم ألماني عمل على نشرها وترجمتها، والمدهش في الكتاب أنه مكتوب بإحدى لهجات الصين الشمالية، تقترب من لهجة بكين مع إدراج بعض العبارات العربية والفارسية في المتن مكتوبة بالخط العربي.
مرَّ الوقت سريعًا، وكان حديث الفنان الصيني شيقًا للغاية، حيث استغل الفرصة في نهاية اللقاء لتوجيه الدعوة لي ولكل عشاق ومحبي ودارسي فن الخط العربي في مصر أيضًا، لزيارة مساجد "نيو جيه" و"شيان" و"دونغسي" في بكين بالصين، للاطلاع ومشاهدة نسخ القرآن الكريم المدوّنة من قبل إمام هذه المساجد بالخط العربي.