الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

أمريكا "وإدمان" التدخلات الخارجية!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

من يتابع عن كثب تاريخ الشئون الخارجية الأمريكية وتدخلاتها العسكرية يدركُ أنّ عددها ضخمٌ للغاية ويوحي بإدمان التدخل وهو في زيادة مستمرة منذ الحرب الباردة وحتى الآن، ودائما ما ترفع شعاراتٍ نبيلةً في أهدافها كنشر الحرية وتحقيق الرخاء وحماية المدنيين، لكنّ التكلفة الضخمة المتمثلة في أرواح الضحايا أولًا، والمليارات التي تُنفق على التدخلات ثانيًا، لا يتمّ التوقف عندها بما يكفي لتصويب الأخطاء وتحميلها لمتخذي قرار التدخل العسكري، كما أنها تتحرك بعيدًا عن حدودها الجغرافية وقد تصل إلى كافة مناطق العالم، وليس فقط في إطار محيطها الجغرافي وعمقها الاستراتيجي.
ولعلّنا نذكرُ مشهد هانز بليكس، كبير مفتشي الأسلحة السابق للأمم المتحدة، وهو "يستجدي" في فبراير عام 2003 مهلةً حتى يتحقق المفتشون من حيازة العراق لأسلحة دمارٍ شاملٍ؛ لكنّ كولين باول وزير الخارجية في إدارة بوش وكبير المروّجين لقرار غزو واحتلال العراق كان مصمّما على إجراءاتٍ فوريةً جازما بأن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل، ويمكنه إنتاج الجمرة الخبيثة وما يكفي من العوامل البيولوجية الجافة في شهر واحد لقتل الآلاف من الناس، الأمر الذي مهد للغزو الذي حدث في الشهر التالي.
ولم نسمع عن تحقيق يذكر بعد فضيحة الكذبِ المقصود بشأن المزاعم حول تطوير العراق أسلحة الدمار الشامل. 
وبالنظر إلى حجم التدخلات العسكرية الأمريكية في الخارج، نجد أن الولايات المتحدة شاركت في 46 تدخلًا عسكريًا في الفترة من 1948 إلى 1991؛ وزاد هذا العدد من 1992 إلى 2017 أربعة أضعاف حيث وصل إلى 188 تدخّلًا، تعدّدت بين عمليات سريّة وأخرى عسكريّة. وفي الوقت الذي ترفع فيه الولايات المتحدة إنفاق البنتاجون بشكل مطّرد مع زيادة الإنفاق العسكري وتصعيد انتشار القوات في الخارج، يتضح أنّ هناك ملمحين أساسيين خلال تحليل التدخلات العسكرية الأمريكية.
أوّلًا، نشر القوات المسلحة الأمريكية في بلدان أخرى لم يكن متساويًا من حيث التكرار على امتداد الحقب التاريخية، وسجّل زيادةً ملحوظة لصالح الفترة التاريخية التي أعقبت نهاية الحرب الباردة (1991).
ثانيًا، نادرًا ما حققت التدخلات العسكرية الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية أهدافها السياسية المقصودة، أي أن الولايات المتحدة خسرت أكثر ممَّا انتصرت؛ وعندما "تفوز" فإنها تحقق ذلك بعد أن تكون قد أنفقت تكلفة باهظة تزيد كثيرًا عمَّا كان يمكن اعتباره إنفاقًا معقولًا قبل التدخل، إلى جانب الكوارث الإنسانية من ضحايا وجرحى ومشردين بالملايين. وتُطوى الصفحة بعد ذلك دون تحقيق أو مراجعة وحتى عندما يطرح الرأيُ العامُ ذلك طالبًا محاكمة المسئولين، يتمّ التملص أو تُسجّلُ ضدّ فرد أو أفراد وكأنها هفوة عامل في تصنيعِ فردةَ حذاء!
هذا ما حدث مع كولن باول نفسه الذي تمَّ وصفُ خطابه في الأمم المتحدة بالـ "وصمة" في سجله، رغم أن هذه الوصمة أدت إلى تدمير وطن كبير في الشرق الأوسط اسمه العراق، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فبعد أن دمرت القوات الأمريكية وطنًا وشعبًا وانسحب آخر القوات في عام 2011، ظهرت جماعة "داعش" - وهي أكثر الجماعات التي شهدها العالم إرهابًا ووحشية- وأغرقت العراق من جديد في حرب دامية. ثمّ تكرر الولايات المتحدة سيناريو الحرب والتدمير في المنطقة لتكون سوريا هي الضحية الجديدة. 
ويقود هذا إلى سؤال مهم: إذا كانت التدخلات العسكرية الأمريكية تفشل كثيرًا، فما الذي يفسر الزيادة الهائلة في استخدامها منذ عام1991؟
بلغ إجمالي التدخلات العسكرية الأمريكية 392 تدخلًا منذ عام 1800 بحسب إحصاءات نشرتها خدمة أبحاث الكونجرس في أكتوبر 2017. 
وتظهر البيانات زيادة كبيرة في العقدين الأخيرين مقارنة بما قبلهما: من 1800 إلى 1849 كان هناك 39 تدخلًا؛ من 1850- 1899 كان هناك 47 تدخلًا؛ من 1900-1949 كان هناك 69 تدخلًا؛ من 1950-1999 كان هناك 111 تدخلًا؛ ومن 2000 إلى 2017 كان هناك 126 تدخلًا- وهذا الرقم الأخير يعني أنه خلال فترة سبعة عشر عامًا فقط كانت التدخلات العسكرية هي الأكبر مقارنة بخمسين عامًا سابقة عنها.
وكما تكشف هذه البيانات فإن معدل التدخل عبر الزمن ليس رتيبًا، ولكنه يقفز خلال فترتي الحرب العالمية (1917-1918)، وكذلك الحرب الباردة (1948-1991). ويتمثل أحد الآثار الضمنية في أن الولايات المتحدة تزعمت دائما خلال الحروب الموقف الدولي، وفي الوقت نفسه، أدت إلى القدرة الفريدة تقريبًا بين المنافسين على تحريك القوات المسلحة بسرعة حول العالم ودعمهم خلال العمليات الهجومية المستمرة.
وإذا قمنا بفحص البيانات بشكل أكبر لمقارنة معدلات التدخل خلال الحرب الباردة وما بعد الحرب الباردة فسيظهر شيء مذهل حقًا: بينما شاركت الولايات المتحدة في 46 تدخلًا عسكريًا خلال نحو 40 عاما (من 1948 إلى 1991 ) فإن هذا الرقم تضاعف 4 مرات تقريبا خلال25 عاما (من 1992 إلى 2017 ) ووصل إلى 188 تدخلًا. وتطرح هذه الإحصاءات لغزين على الأقل من الألغاز المهمة. أولًا، لماذا تزداد التدخلات العسكرية في نفس الوقت الذي يتراجع فيه النجاح في التدخلات العسكرية؟ ثانيًا، لماذا تزداد التدخلات العسكرية بعد الحرب الباردة، عندما تكون المبررات الايديولوجية للتدخلات قد تراجعت؟ ومن أمثلة هذه المبررات إنقاذ الناس المعرضين لخطر السقوط في فلك سوفييتي، وبالتالي تهديد مادي ووجودي للأمن القومي للولايات المتحدة. بعبارة أخرى، إذا كانت الولايات المتحدة تتدخل بالقوة المسلحة فقط عندما تكون مصالحها الحيوية على المحك، فلماذا تتدخل في كثير من الأحيان عندما يكون هناك عدد أقل من المصالح الحيوية على المحك؟ 
الإجابة هي أن واشنطن تتدخل عسكريًا في كثير من الأحيان عندما لا ينبغي لها ذلك وهو إدمان القوة وتحريك ماكينة اقتصادها العسكري واختبار قوتها وتدريب قواتها وتجريب أسلحة جديدة قد لا يعلم العالم عنها شيئا. وقد عانى أمن دول العالم نتيجة لذلك كما عانى أمن الولايات المتحدة نفسها وازدهارها من جراء ذلك، وما زالت التدخلات العسكرية مستمرة، وفي مسرح جديد الآن هو شرق أوروبا من خلال حلفاء ووكلاء؛ والعدوّ الجديد القديم هو روسيا. لكنّ روسيا ليست المتضرر الوحيد بل إنّ دول العالم، وخاصة النامية والفقيرة، هي الأكثر تضرّرا في اقتصادها وأمنها الاجتماعي والسياسي.