الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

30 يونيو ثورة كشف الحقائق

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

في البنيوية كان الناقد والمفكر لوسيان جولدمان يرى أن معرفة التفاحة يستلزم تشريح الشجرة التي أنتجتها، والمحيط الزراعي الذي عاشت فيه، فعلاقة الجزء بالكل تظل علاقة عضوية وجدلية في الوقت نفسه. ومن رحم سياقات سياسية وثقافية ملتهبة شهدت عشرات التحولات الاجتماعية في غضون سنوات قليلة أتبعت ثورة يناير 2011، وفي ظل حال من السيولة المطلقة أعلن تيار الإسلام السياسي عن نفسه بسفور شديد، موظفا في ذلك كل شيء، المراهقة السياسية لدى البعض، والرغبة العارمة لدى بعض القوى الكبرى في منح الإسلاميين حكم البلاد، والعداء  من بعض القوى الإقليمية للدور المصري في المنطقة، وتسلح تيار الإسلام السياسي بآلياته المألوفة من تصدير خطاب عاطفي يخاطب المشاعر الدينية للجماهير، ويحيى آمال الخلافة الوهمية لدى الإسلاميين، وتحالف الإخوان مع بعض القطاعات الليبرالية واليسارية الزائفة من تلك التي لم تدرك معنى التناقض الرئيسي، والتناقض الثانوي، وخلقت الجماعة الإرهابية جوقة يتحدثون باسمها ويدافعون عنها، وقد فضحت القريحة الشعبية أولئك المتعاطفين مع الجماعة بالسخرية من عبارة تواترت كثيرا في السنوات التي سبقت الثلاثين من يونيو، حيث أعلن البعض وبسماجة شديدة انهم ليسوا من الإخوان ولكن يحترمونهم! !، وهي عبارة مضحكة ومسمومة في آن. ولم يخلُ الأمر من تهديد طيلة الوقت وتلويح بالقوة، وكانت جمعة قندهار مفصلية في هذا السياق، حيث أبان التيار الديني عن نفسه وسعيه الحثيث للقفز على السلطة، وجرت الوقائع والأحداث حتى كان الإعلان الدستوري في 2012، تكريسا لاستبداد مزدوج، حيث امتزج الاستبداد الديني بآخر سياسي، وكان الحراك الثوري المبهر أمام الاتحادية والذي استمر في أمكنة متعددة وبكثافة متزايدة حتى فاقت الجماهير كل توقع في زخمها وإرادتها في الخروج من النفق المعتم الذي أدخل الإخوان فيه الجميع، خاصة حين سعوا وبضراوة إلى محو الهوية الوطنية المصرية بطبقاتها الحضارية المتنوعة وجذورها المعرفية والإنسانية المختلفة. من هنا كان لا بد للثورة أن تكون، فتأميم الفضاء العام ومحاولة أخونة كل مفاصل الحكم والإدارة، والإقصاء على الهوية، والتمييز الطائفي، والدخول في مغامرات ساذجة وعدم الوعي بالأمن القومي المصري ومحيطه العربي، ومحاولة قطع الصلات بين مصر ودوائرها الجيو سياسية أسهم في مزيد من تعميق الكارثة. وباتت مصر بحاجة إلى استعادة ثورتها ومغادرة حكم الملالي الجديد.
لم تكن ثورة يونيو إقصاء لنظام فاشي فحسب، قدر ما كانت إقصاء لنمط من التفكير الخرافي الذي يمزج المقدس بالدنيوي، واستبعادا لدولة الوصاية الدينية حيث كل شيء يكمن تحت سيف الفقيه، ومنطق القرون الغابرة هو الحاكم. ولم تكن ثورة يونيو ثورة ثقافية بحكم الحراك الثوري الذي صنعه المثقفون آنذاك فحسب، ولكن لكونها دفاعا حقيقيا عن الهوية الحضارية المصرية ووعيا بتنوعها الخلاق. 
إن القراءة الثقافية لثورة الثلاثين من يونيو، تعيد الاعتبار لفكرة التنوير المركزية في أن يفكر الناس بأنفسهم وليس عبر آخرين، فانتفاضة المصريين ضد الوسطاء بينهم وبين السماء، ووكلاء المقدس الذين حازوا كل شيء، وامتلكوا يقينا جازما بأنهم يحكمون باسم الله، وأنهم سيعيدون أمجاد الخلافة الغابرة، تجعلنا ننظر بمزيد من الأمل لهذا الشعب القادر على الفرز والتمييز جيدا، والذي يملك جينا حضاريا هائلا يجعله يقاوم العتامة، والمحنة والألم، ثم يخرج بإباء فريد من قلب النفق. 
امتلك المصريون وعيا ممكنا، قادرا على الاستشراف، بدوا من خلاله مدافعين عن قيم أصيلة في الوجدان والضمير العام، قيم شكلتها قرون ممتدة من التعايش الحضاري، وثوابت نبيلة شكلت جزءا مركزيا من الشخصية المصرية التي استنفرت قواها في لحظة مفصلية شعرت فيها أن الخطر يتهدد الوطن جميعه، خطر لا يتهدد المباني والمؤسسات بأبعادها المادية ولكن يتهدد الروح المصرية ذاتها، ويطال الأفكار والرؤى والتصورات الحديثة في النظر إلى العالم.
كانت اللحظة محملة بشعور وطني عارم، وانفعالات لا حصر لها. فكل شيء كان يتجه صوب الماضي، ليست الأفكار وحدها ولا التصورات التي حملتها جماعة دينية تجعل من وجودها بديلا عن وحدة الوطن ذاته، ولكن حركة الزمن نفسها وهي تعادي فكرة الدولة الحديثة، وتتجه للقبلي والعشائري.
مثلت 30 يونيو التجلي الأبهى في الرفض الشعبي لحكم جماعة اعتقدت أن بإمكانها أن تحكم بلدا غنيا بروافده الإنسانية والحضارية مثل مصر، ولذا كانت الثورة الشعبية العارمة ضد من أرادوا العبث بكل شيء، التاريخ والهوية، الحاضر، والمستقبل.
وعقب الخروج الهادر من جماهير شعبنا في يونيو 2013، أسفر الإخوان أكثر عن وجوههم القبيحة، وأصبحوا يلوحون بالقوة ويتباهون بالدماء، واستمرت الجماعة ومشايعوها في ارتكاب الجرائم الإرهابية التي جعلت السواد الأعظم من المصريين يدركون صلتها الوثيقة بالإرهاب الذي يحدث، وفات البعض أن الإخوان جماعة إرهابية بالأساس، منذ النشأة وحتى الآن، وربما كانت من تجليات 30 يونيو أيضا أنها أسقطت ورقة التوت عن الجماعة ومناصريها، فيما يتصل بملف العنف والإرهاب، أما تبنيها للأفكار المتطرفة فهو المهاد النظري الذي اعتمد عليه كل الإرهابيين في العالم.
إن ما تلا 30 يونيو من استهداف لكل شيء في مصر على يد الجماعة الإرهابية والمتحالفين معها يكشف عن منعطف تاريخي فارق مرت به الدولة المصرية في تاريخها الحديث، فكان الدور الباسل للقلب الصلب للدولة المصرية التي قدمت الدماء والشهداء لحماية شعبها من مخططات تشاركت فيها قوى الرجعية مع قوى الاستعمار الجديد ووكلائه في منطقة الشرق الأوسط التي أريد تقسيمها من جديد، غير أن روح مصر كانت حاضرة وبالمرصاد لكل من حاول أن تمتد يده بسوء لبلد قدره أن يكون عظيما مهما حدث.
يجب على دولة 30 يونيو أن تدرك جيدا أن التغلغل الإخواني السابق في كثير من المؤسسات مرده الرئيسي إلى تأسلف المناخ العام، ولذا فنحن بحاجة حقيقية إلى تنوير حقيقي يخلق مناخا تقدميا بامتياز، يحرر الوعي ويبني الوطن، كما يجب علينا أن ننتبه جيدا إلى فكرة "التقية" التي ينفذ من خلالها الإخوان إلى المؤسسات والقطاعات المختلفة، وإذا كانت الثورة قد كشفت عن كثير من الوجوه الإخوانية، فإن وجوها كثيرة لم تزل تمارس التقية، ولا تترك فرصة في النيل من الوطن وضربه بأية وسيلة إلا وفعلت ذلك، حيث تتسع نظرية الذئاب المنفردة لتشمل كل ما يعوق حركة الدولة المصرية، وليس العمليات الإرهابية فحسب، حيث يعتقد - مثلا- من يقوم بالشائعات ضد الدولة المصرية أنه يجاهد في سبيل الله!!، وتلعب وسائل التواصل الاجتماعي دورا مبرزا في هذا السياق، لكن يظل الأدهى هو التحالف المقيت بين الفساد والرجعية، حيث نجد بعض المسئولين في عدد من القطاعات يحمون ممارسي التقية الكاذبة من الإخوان والأخوات من مشايعي الإرهاب، بجهالة، أو تواطؤ، أو كليهما معا.
وبعد.. تعني 30 يونيو انحيازا للمعنى، وخلاصا من الجيتو الضيق الذي مثلته الجماعة الإرهابية، واستعادة لبراح الوطن وناسه وأمانيه، وروحه العصية على الموت، والنسيان.