السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

محنة مرضية.. ومنحة ربانية

الزميل همام
الزميل همام
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

مررت خلال الفترة الماضية (من 5 نوفمبر 2010 وحتى 20 مارس 2022)، بتجربة مرضية شديدة، تمثلت في أزمة قلبية حادة، وذبحة صدرية، وجلطة غير مكتملة في القلب، استلزمت إدخالي العناية الحرجة بقسم لقلب، في مستشفى الطوارئ، بقصر العيني، لمدة أسبوعين، ثم استكمال العلاج في المنزل، لقرابة أربعة أشهر، مع الالتزام ببرنامج علاجي مكثف، وبرنامج غذائي صحي، للسيطرة على ارتفاع السكر، والضغط، وأملا في تحسن عضلة القلب، التي كانت ضعيفة جدًا (30%)، وانتهت الرحلة المرضية في معهد القلب بإمبابة، على يد فريق من الأطباء الأكفاء، يتقدمهم الجراح القدير، الأستاذ الدكتور إيهاب شريف، الذي جمع بين الكفاءة الطبية، والصفات الأخلاقية، والحمد لله على كل حال.

وقد مرت برأسي، خلال هذه الفترة العصيبة، خواطرُ عدة، وتنازعتني أفكارٌ جمة، بيدَ أنني، عندما بدأت أستفيق، وجدتني أمسك بالورقة والقلم، لأسجل بعض خواطري تلك، حول هذه التجربة المرضية، وما يجب أن يستقبله الإنسان خلالها، من رسائل ومنح ربانية، جديرة بالتوقف عندها، لاستلهام الدروس والعبر والعظات، منها على سبيل المثال:

1) الرسالة الأولى: أن المرض، جنديٌ مأمور، من جنود الله (عز وجل)، وسلاحٌ مُسَلَط من أسلحة الخالق (جل في علاه)، وأداةٌ من أدواته (عز جاهه)، يسلطه على من يشاء من عباده، ويستخدمه متى شاء (سبحانه وتعالى)، فلا شيء في هذه الدنيا يأتي بلا ترتيب، أو يحدث عبثًا، لأنه يستحيلُ أن يقع في أرض الله، إلا ما أراده الله، فلا يسكن ساكن، ولا يتحرك متحرك في كون الله إلا بأمر الله.

2) الرسالة الثانية: أن المرض، مهما كانت درجته، لا يربو على أن يكون إنذارًا، من الخالق القوي الجبار، إلى المخلوق الضعيف المحتار، بأنك ميتٌ، مهما طال عمرُك، وقويّ بدنك، وزادت مكانتُك، وذاع صيتُك، واشتد سلطانُك، وكَثُرَ مالُك، وترامى مُلكُك، فأنت إلى زوالٍ لا محالة، فانتبه إلى مآلك، وتيقظ إلى حالك، وخذ إنذار الله لك بجد، واستعد له على حد، فإن الموت يأتي بغته.

3) الرسالة الثالثة: أن السعيد الذكي، من اتعظ بغيره، وأن الحزين الغبي، مَن يستجلب مغاضب الله عليه، وينتظر أن يمر بالاختبار والامتحان، دون أن يكون قد استعد له جيدًا، ظنًا منه أنها فترة قليلة وستمر، أو أنها محنةٌ بسيطة وستزول، دون أن يفكر في الاستعداد للقاء الله (عز وجل)، بالتوبة الصادقة من الذنوب والخطايا، وتخليص نفسه من حقوق الغير؛ بالمسارعة إلى أدائها، كاملةً غير منقوصة.

4) الرسالة الرابعة: أن العاقل من يحصد الدروس والعبر والعظات، من المحن والعلل والسقطات، ومن يعتبرها فرصة أخيرة للعودة إلى الحياة، فيقفُ على ما فيها من دروس، يسترجعها واحدًا تلو الآخر، يمضغها جيدًا، قبل أن يهضمها، حتى تستقيم حياتُه، وتسعد أيامُه، لينجو في أخراه من عذاب الله، ولينعم برضوانه وجنته ونعيمه.

5) الرسالة الخامسة: أن الكَيّسَ من دانَ نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجزَ من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، فالفرصة قد لا تتكرر، والأيام قد لا تعود، فالحساب الحساب قبل المآب، والسداد في الدنيا من الأموال والكلمات، أيسر أمرًا، وأقل تكلفةً، من السداد في الآخرة، من الأعمال الصالحات، فهنيئًا لمن استقبل الرسالة، ووعي الدرس جيدًا.

6) الرسالة السادسة: أن الأمر كلَه بيد الله؛ الصحة والمرض، المنح والمنع، الحياة والموت، التوسعة والتقتير، العطاء والأخذ، والأمن والخوف،...إلخ، وليس لأحد دونه (سبحانه وتعالى) من أمرنا شيئٌ، وعليه فلا يجب أن نطلب إلا من الله، ولا نتعشم إلا في كرم الله، ولا نأمل إلا في الله، وخلاصة الأمر؛ أن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف يشاء، سبحانه جل شأنُه، وعزَّ مقداره، وعظُمَ سلطانه، ولهذا فإن سؤال غير الله مذلة، والطلب من دونه، إضاعة للجهد، وتبديد للوقت، وإرهاق للقلب.

7) الرسالة السابعة: أن زيارة المريض وعيادته، مع مراعاة آدابها المعروفة، حقٌ للمريض، وواجبٌ على الزائر، مهما كان وضعه بالنسبة للمريض (قريب/ جار/ صاحب/ صديق/ زميل/... إلخ)، فأجرها للزائر كبيرٌ، وفائدتها للمزور عظيمةٌ، وفيها (الزيارة) تسريةٌ عن المريض، وتخفيفٌ عن آلامه، وتنفيس له في الأجل، كما أن الزائر للمريض يخوض في رحمات الله، طوال فترة زيارته.

8) الرسالة الثامنة: أن أقرب الناس إلى المريض، طوال مدة مرضه، من الأهل والأرحام والجيرانً والزملاء والأصدقاء... إلخ، هم الأكثر اهتمامًا به، وسؤالًا عنه، وتطييبًا لخاطره، قال تعالى في الآية 75، من سورة الأنفال: [... وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ...]، فالناس من حولك دوائر؛ وكلما اقتربت الدائرة من المركز، كلما زادت المودة، وثبتت الحقوق، ووجب الاهتمام، غير أن هناك أناٌس غيرُ مرغوب فيهم، زيارتهم تزيد الألم، ولا تخفف التعب، فهؤلاء يحسن منعهم من زيارة المريض، بيد أن هناك أناسٌ زيارتهم للمريض دواء، وجلوسهم معه وحديثهم إليه شفاء، فمثلهم لا يَمَلُ من زيارتهم مريض.

9) الرسالة التاسعة: أن الاهتمام بالمريض ليس بكثرة السؤال عنه وحسب، ولا بإظهار الاهتمام بأمره فقط، ولا بإبداء الحزن على مرضه وحسب، وإنما يكون بقدر حاجة المريض وحالته، فاصطحاب طبيب معك، أثناء الزيارة، للكشف على المريض، وتطمينه وأهله، قد يكون أجدى للمريض نفعًا، وأكثر فائدةً، والدخول على المريض ومعك الدواء الذي كتبه الطبيب المعالج، مدون عليه مقادير ومرات الاستعمال، قد يسعد صدره، ويشفي قلبه، وأدنى درجات الاهتمام بالمريض أن تجلس إلى جواره تدعو اللهَ له بأطيب الكلمات، وتنفس عنه بأعذب الأمنيات، ولا تكثر القول فيما لا يُحب، ولا تُطِل المكثَ على غير ما يريد.

10) الرسالة العاشرة: أن زملاء العمل، قد يكونوا أجدى من 100 قريب ورحم وجار، فكلما كان الزميل في العمل واعيًا بما تفرضه عليه مثل هذه الظروف، وبالدور الواجب عليه تجاه زميله، كلما أدخل السرور على المريض وأهله وخفف عن آلامهم، حتى وإن لم يزره في بيته، طالما تولى إبلاغ المسئولين والقيادات في العمل بمرض زميله، وسعى لإنهاء إجراءات اعتماد إجازة مرضية له (مدفوعة الأجر)، أو سعى لإنهاء إجراءات توفير سرير له في العناية الحرجة أو المُركزة، بالمستشفيات الكبرى المتخصصة في حالته، أو مساعدته في استصدار قرار بالعلاج على نفقة الدولة، إذا كانت ظروفه المادية لا تسمح بالإنفاق على علاجه، كما يتحمل أو يدبر له من يقوم بعمله، بدلًا منه، ليرفع المسئولية عن زميله المريض، أو يتولى قبض راتبه، وتوصيله له أو لأهله، خلال فترة مرضه، لكونه في حال مرضه، أحوج إلى راتبه من أي وقت مضى، وهنا يتجلى الدور الإنساني لصاحب أو رئيس العمل.

وختامًا؛ فإن المرض كما يقولون، كشافٌ جيد عن معدن الرجال، وميزانٌ صادقٌ للحكم على الملتفين حولك، في حال صحتك وقوتك، فقد تفاجئ بمعادن نفيسة، لبعض الزملاء الذين كنت لا تراهم على هذا النحو من قبل، وقد تُصدَم في كثير من الناس، اللذين كنت تعتبرهم الأقرب إليك، وهكذا المحن فرصةٌ لأخذ الدروس، واستشراف المنح من الله.

أسأل الله عز وجل، أن يُعلمني ما ينفعُني، وأن يينفعني بما علمني، وأن يزدني علمًا، وأن يشفي كلَ مريض، وأن يرفع الألم والوجع، ويعافي كل مبتلى، وأن يجنبنا وإياكم الأمراض والعلل، أن ويصرف عنا وعنكم الأسقام والأوجاع وسيء الأخلاق.. إنه وليُ ذلك والقادر عليه.