الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

دراما التنوير وبناء الوعي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

مثلت دراما "الاختيار" في أجزائه الثلاث نوعًا جديدًا من معارك الوعي الفكري، كما لامس نفس هذا التوجه مسلسلان آخران في رمضان هذا العام، هما "العائدون" و"بطلوع الروح"، وسارا على نفس النهج الفكري، وكشفت جميعها كيفية غسل الجماعات الدينية لأدمغة الشباب بتفاوت التطرف الذي تنطوي عليه توجهاتهم من إخوان إلى جماعات تكفيرية لم يختلفوا في الأهداف وإن اختلفوا في الرؤوس وفي وسائل الوصول إلى أهدافهم. 

هي دراما قريبة من الواقع شارك فيه الكثيرون، مثلما شاركتُ فيه كصحفية غطت الأحداث عن قرب، أو ربما شاهدوا أجزاء منه واستمعوا إلى أجزاء أخرى وكانت تملأُ نفوسهم قلقا وخوفا على أبنائهم ووطنهم. وقد أعادت هذه المسلسلات استعراض تلك الأحداث الواقعية للتذكير من خلال التسجيلات الحيّة التي توثِّقُ كيف كانت الدولة مهدّدة بالانهيار، حيث بيّت الإخوان النيّة على هدمها وشعارهم "إمّا الجماعة وإمّا الدولة"، وقد كشفت الحوارات والنقاشات المسجّلة صوتًا وصورة والتي عرضها الاختيار المطامع الإخوانية وكيف خطّطوا للاستيلاء على مفاصل الدولة وهدم مؤسساتها وركائزها وهويِّتها وحضارتها واستقرارها.

علماء الاجتماع الذين لا يُسمع رأيهم إلا فيما ندر يحرصون دائما على تذكيرنا وتنبيهنا منذ عقود وليس بالأمس القريب فقط بأن الدُول تُبنى بالاستثمار في البشر وتنمية وعيهم وإدراكهم وولائهم للوطن وحفاظهم على هويتهم. وتتحقق تنمية الإنسان الواعي والقادر على مواجهة تحديّات عصره من خلال عناصر كثيرة، في مقدّمتها التعليم الجيد والثقافة والفنون والآداب التي تغذي شخصيته وتربطه بتاريخه وحاضره وتنقله للمستقبل الأفضل. والاختيار في نسخه الثلاث يأتي في هذا الإطار. 

وكذلك الشأن بالنسبة للعائدون وبطلوع الروح، حيث يتعرف المشاهدون، وخاصّة الشباب المستهدف بالتجنيد، على أفكار تلك الجماعات المتطرِّفة التي تمركزت في سوريا ومناطق كثيرة حولنا وكيفيّة حشدهم للشباب مستغلين حماسهم، ومسح أدمغتهم وحشوها بأيديولوجيا تبرِّرُ الموت والقتل والفوضى كمفاتيح للجنّةِ تحت وهم محاربة المجتمع الكافر واحتكار الحقيقة.  كما يتعرّفُ الشباب على دور جيشهم وشرطتهم، ليس بالشعارات الرنانة وإنما بمشاهدة تفاصيل المعارك التي يخوضونها بالنيابة عن المجتمع ككل؛ ولقد لعبت الدراما الوثائقية صوتًا وصورةً دورًا مهمًا في بناء هذا الوعي بدلًا من وعي مزيف كانت تروجه جماعات إرهابية تكره الحياة وتستخدم الدين شعارا لقتل الأبرياء بالمئات.

ويمكن اعتبار الاختيار والعائدون وبطلوع الروح امتدادا لتوجه بناء الوعي من خلال الفن والذي بدأ قبل ثورة ٢٠١١، وبالتحديد في مسلسل "الجماعة"، الذي ألفه الراحل وحيد حامد وتم إنتاجه في أواخر عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك. وقد هوجم آنذاك من جانب جماعة "الإخوان" لمجرد أنه تعرض لنشئتِهم، ووصل الأمر بهم حينها إلى مهاجمة كل الفنانين الذين شاركوا في العمل وتكفير وحيد حامد نفسه حيث واتهموهم بأبشع الاتهامات وصدرت تهديدات ضدهم وصلت للقتل حيث أدركوا هم أنفسهم قيمة الدراما في كشف مطامعهم وخيانتهم وتنوير الناس بمآمراتهم.

أتمنى أن تستكمل الدولة المصرية هذا المسار في المرحلة المقبلة ولا تتوقّف عند عدد محدود من الأعمال بل تبلور مشروعًا قوميًا متكاملًا وممتدّا، يستثمر في الفكر والثقافة والأدب والفنون بأشكالها من دراما وسينما ومسرح وموسيقى لتصحيح المفاهيم، وفضح مخطط الجماعات الإرهابية وكشف تزييفهم لوعي الشباب باستخدام خاطئ للدين وبيع وهم الجنّة التي يشترونها بصك القتل والاغتيال وتسويق ذلك بديلًا عن الحياة السويّة بكل مناحيها. 

وبهذا فقط يمكن أن يكون لدينا أمل في استرجاع هذه الطاقة المهولة المتمثلة في الشباب حتى نمنع المزيد منهم عن الانحراف، وبهذا فقط  يمكن أيضا التعجيل بنهاية هذه التنظيمات للأبد والقضاء على الخداع والانتهازية السياسية ودون مخاوف من عودتهم واستغلالهم للظروف للانقضاض على السلطة.

ويدرك كل من يتابع ويراقب أداء المؤسسات الدينية في مصر طيلة العقود الماضية أنها تتحمل جزءً من مسئولية نشأة الجماعات الإرهابية وتمدّدها، لأن تلك المؤسسات الوسطية تخلت عن دورها في التنوير وانساقت وراء سباق التنافس مع تلك الجماعات وشيوخها المتشدّدين لجذب أكبر عدد من المريدين بدلًا من قيادة الدفّة والقيام بدور رياديّ في توعية الناس بدينهم السمح وقيمه الداعية للحياة وليس إلى الموت. وأصبحت صحوة هذه المؤسسات الآن واجبة حتى لا نفاجأ مجدّدا باختراقها من عناصر "العائدين" الذين ما زالوا يختفون في مناطق داخل العراق وسوريا وليبيا وعدد من الدول الإفريقية وينتظرون أي فرصة للانقضاض من جديد!

olfa@aucegypt.edu