الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الحذاليق

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

استطاع الإنترنت أن يخرج علينا بطائفة من البشر يمكن أن أسميهم أنا بـ "الحذاليق" مجازًا. هؤلاء الأفراد هما نتاج مجموعات من البشر استطاعت أن تتجمع افتراضيًا وأن تنشئ مجموعات تطوعية تواصلت مع أسماء معروفة في مجال العمل التطوعي والإنساني بل والتطبيقي أيضًا، تعمل على الأرض ولها مقرات واقعية. تتشكل في هيئة مجموعات عمل منتظمة، ثم تتجمع لديها معلومات عير هذه التشكيلات. وتتحدث مع الآخرين على أساس أنها تعرف كل شيء وغيرها لا يعرف أي شيء. في الواقع إنهم يشبهون هؤلاء الذين يجيدون قراءة نشرة الدواء لكنهم ليسوا بالصيادلة، وهناك فرق كبير بين كلا الفريقين.

حين نشأ الإنترنت، استطاع أن يقدم المعلومات لكل من يملك وسيلة للاتصال بالشبكة الإلكترونية العنكبوتية. أصبح بإمكان كل شخص أن يصل لأي شخص آخر ولأي معلومة ولأي صورة ولأي فكرة طالما هي غير مشفرة بالنسبة له، وطالما كان مسموحًا له الولوج إليها. من هنا أصبح بإمكانك أن تستبدل ذاكرتك بما اصطلح على تسميته مع الوقت بـ "ذاكرة جوجل". وهي الذاكرة التكنولوجية المحمولة التي تعبر عن تلك الذاكرة الكبيرة التي يمثلها أي محرك بحث، وليس بالضرورة جوجل. لا يوجد بشري على الأرض يستطيع أن يحمع في عقله كل المعلومات التي يحيويها محرك البحث، إذ يحمل المحرك في الواقع أغلب التراث البشري القابل للتسجيل الإلكتروني على سطح الأرض. طالما يمكن لك الوصول لمحرك البحث فأنت تملك ذاكرته، بل وتملك ديناميكية تلك الذاكرة في الوصول للمعلومات ومعالجتها بأشكال مختلفة، مما يوفر لك ذاكرة بصرية وكتاببية وسمعية مؤقتة لديك حال استدعائها، لكنها ذاكرة دائمة حال توفرها بشكل دائم على الشبكة العنكبوتية بالنسبة لك. هذه الذاكرة المعالجة بعناية وجودة كبيرين قدر الإمكان قدمت لنا طائفة من العارفين المزيفين أيضًا يمكن ضمهم للحذاليق.

هؤلاء العارفين "الحذاليق" يدعون طوال الوقت أنهم يعرفون كل شيء، طالما الإنترنت يعرف. حتى إن كان الإنترنت لا يعرف، فهناك من هو متصل بالإنترنت، ويعرف ويمكن سؤاله بشكل سريع. هنا يطالعنا سؤال: "هل تعد هذه ظاهرة صحية؟". هل يمكن الاعتماد على تلقين المعلومات عبر الإنترنت للأفراد من أجل الحصول على جيل مثقف؟ حتى في حال اعتبارهم أشخاص لديهم القدرة على نقد المعلومات والحصول عليها من مصادر موثوقة موثقة؟.
أثبتت تجربة الحجر التي مررنا بها في فترة الوباء أن التعليم عن بعد لم يغنِ عن التعليم الوجاهي "وجهًا لوجه". ربما يرجع البعض ذلك إلى أن التعليم ليس فقط مجرد معلومات بل يجب أن يتمتع المتعلم بجانب مهاري يكتسب فيه مهارات استخدام المادة التعليمية ذاتها، وإجراء العمليات العقلية والمادية عليها. إلا أن الأمر يختلف حين يتصل بالثقافة. تزيد ثقافة الإنسان عادةً بالقراءة، أليست المواد التي تقدم على الإنترنت نوع من القراءة المتعمقة المدعمة بالوسائل المساعدة مثل الصور والمواد الفيليمية والروابط الإلكترونية المساعدة؟.
إذن يمكن أن يكون الإنترنت وسيلة تنتج جيلًا مثقفًا، ويمكن أن يكون مرتاد الإنترنت إنسانًا مثقفًا، لكن لا يمكن الاعتماد عليه في ممارسة ما تعلمه على الإنترنت واقعيًا. يظل الواقع الافتراضي افتراضيًا مهما حدث. ويجب أن نتذكر ظوال الوقت أن الإنسان كائن غير افتراضي في الأصل، لكنه قادر على إنتاج ملايين الكائنات الافتراضية متى أراد وملك الوسائل لذلك. وتلك هي المشكلة. فالخلط بين المجتمعات الواقعية والافتراضية أنتج ما أسميتهم مجازًا الحذاليق.
 ستجد الحذاليق واثقين جدًا من أنفسهم، بل ويدعون أنهم متفوقون في مجالاتهم جدًا من خلال ممارسة بعض الأعمال عن بعد على الإنترنت. الحق أنهم في جانب كبير من حياتهم لا يختلفون عن مكتبة متنقلة تحتاج لأن ترى نور الواقع. إنهم كما نقول في مصر "بيقروا إلى على العلية". لذلك نجدهم عازفين في كثير من الأحيان عن الظهور بشكل كبير لأنهم لا يجيدون استخدام الأدوات الواقعية بذات كفاءة استخدام الأدوات الافتراضية. إننا أمام قضية فصام ثقافي وربما فصام في مجال العمل. أتمنى ألا يظهر ذلك لأن العالم لا يحتمل في وقتنا هذا المزيد من الانقاسامات في مجال الإنتاج. وقبل أن أختم المقال يجب أن أؤكد أن التعميم هنا سيكون خطأ فادحًا. إذ هناك فعلًا من يتمكن من الوصول إلى العالم الواقعي عبر العالم الافتراضي بنجاح. لكننا ما زلنا لا نملك رؤية واضحة لذلك.