الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الدروس والعبر من اجتياح أوكرانيا

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

في عام 2007 أصدرت الكاتبة الكندية "نوامي كلاين" كتابا بعنوان "عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث"، الذي أثار ضجة فعلية في الغرب، لكونه يتضمن تحليلا غير مسبوقا لممارسات السوق الرأسمالي ومنظريه الجدد، خاصة الاقتصادي "ميلتون فريدمان"، الذي يُعد عرابا لمدرسة المحافظين الجدد في الولايات المتحدة. في هذا الكتاب تشرح كلاين، وبالامثلة الحية، كيف تستغل السوق الرأسمالية أية كارثة في العالم، إن كانت إعصارا أو إنقلابا عسكريا أو ثورة شعبية أو سونامي أو زلزالا أو حتى عملية ارهابية لكي يفرض سياسة اقتصادية (أو نظاما) لم يكن مقبولا من قبل الشعب قبل حدوث تلك الكارثة. وتتعمق الكاتبة في احداث حقيقية وقعت في دول عديدة من العالم، مثل شيلي والارجنتين وإندونيسيا، ثم تعززها، بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، بأمثلة عديدة. اليوم نشاهد أن إطلاق تسمية "الصدمة" المستعارة من طب الاعصاب والمستخدم في حقل العلاج النفساني، والذي فيه يتعرض المريض النفساني إلى صدمات كهربائية من أجل محو ذاكرته… وما حدث خلال الشهر المنصرم من قرارات واجراءات وعقوبات وتحالفات، الخ، منذ أن أفاق العالم لرغبة موسكو في اجتياح/ احتلال أوكرانيا، لم يكن لها جميعا ان تحدث قبل الغزو الروسي، وبالتحديد بعد ان دخلت القوات الروسية أراضي اوكرانيا في الرابع والعشرين من فبراير هذا العام.

وضع الاتحاد الاوروبي والناتو قبل الاجتياح الروسي

في منظومة الاتحاد الأوروبي، كان الوضع وعلى مدى سنين عديدة متأزما بين الدول الاعضاء، لأسباب تختلف من أمر الى آخر، ومن دولة الى اخرى. وقد اشعلت رغبة المملكة المتحدة لمغادرة الاتحاد الاوروبي فتيل هذه الخلافات والتناقضات، وكانت أولى الاشارات إلى أن الاتحاد ليس في حالة جيدة، ويعاني من مشاكل، تساءل الجميع عن امكانية حلها. وكان نمو المد القومي في العديد من الدول الأوروبية ووصوله إلى سدة الحكم، على سبيل المثال في ايطاليا وهنغاريا وبولندا وسلوفاكيا، أدى إلى صعوبات بات الاتحاد يعاني منها بشكل مزمن. وكانت هذه الاختلافات متعلقة بشؤون عديدة، منها التعامل مع وفود اللاجئين للأراضي الأوروبية، فمنهم من رفض قبولهم بالمرة، ومنهم من وضع عقبات كبيرة أمام هؤلاء المشردين، ومنهم من وضع جدارا شائكا لمنع دخول اللاجئين أراضيه، وغير ذلك من الممارسات، حتى فرض هذا الخلاف استبدال مصطلح اللاجئين، المعترف به من قبل لوائح الامم المتحدة والاتحاد الاوروبي، بالمغتربين او المرفهين الذين يبحثون عن حياة كثر رفاهية، تسمية جديدة لم يكن ليقبل بها أحد، لولا وفود مواكب اللاجئين السوريين في عام 2015 الى اوروبا، والتي استغلها الساسة الغربيون من خلال الاعلام الغربي في ارهاب الناس من وصول هذه الافواج من المسلمين الى اوروبا، الامر الذي يمكن ان يهدد مجتمعاتهم. كذلك شملت الخلافات موضوع الديمقراطية وكيفية تطبيقها في دول الاتحاد، خاصة لدى دول اوروبا الشرقية المتحررة حديثا من النظام الشيوعي، والحديثة العهد بالديمقراطية، مما ادى الى انزال عقوبات على بعض هذه الدول، مثل بولندا وهنغاريا. 

أما دعم الاتحاد الاوروبي لقطاع الزراعة والدعم البحري لحصص صيد الاسماك، اللذين يقررهما الاتحاد، فقد كانا ولا يزالان يعمقان الخلافات بين دول الاتحاد. أضف الى ذلك شؤون القضاء والاعلام والتعامل مع موضوع الهوية الجنسي (الجندر)، فقد اخذت في الأونة الأخيرة حيزا كبيرا من النقاش حول إن كان للاتحاد ان يصمد.   

أما حلف الناتو، فقد كان هو  الآخر يعاني من مشاكل عديدة وخلافات بين اعضائه، جسدها اعتراف الرئيس الفرنسي ماكرون في خطاب له: "أن دول حلف الناتو  تعاني من موت دماغي". ولم يكن دخول الرئيس الاميركي ترامب للبيت الابيض عاملا مساعدا للتغطية على هذه الخلافات، بل على العكس من ذلك، فقد ضاعف منها، خاصة بتصريحاته الاستفزازية وغير الدبلوماسية، كذلك عندما اشترط على الدول الاعضاء دفع  2٪ من الناتج القومي لكل دولة، مستحقات الاشتراك في الحلف، وبتاريخ رجعي، وإلا لن يكون الحلف ملزما بالدفاع عن أية دولة لا تلتزم بذلك. والاشتراكات المالية لم تكن السبب الوحيد في خلافات اعضاء الحلف، وبالذات بين اميركا والدول الاوروبية، وانما تطبيق سياسة الحلف ايضا. فقوانين بعض الدول الاوروبية ولوائحها الدستورية لا تسمح بتواجد قوات اجنبية على اراضيها، حتى وان كانت امريكية او من دولة حليفة اخرى. ودول اخرى لا تسمح بدخول او حتى مرور الاسلحة النووية في اراضيها أو أجوائها. أما الدول المصنعة للسلاح، مثل فرنسا والمانيا، فلها أجندتها الخاصة، رغم ان هناك اختلافا في قوانين هذه الدول، فبعضها مثلا يمنع بيع السلاح الى دولة ما وهي في حالة حرب، وبعضها لا يعير لذلك أي اهتمام، وهناك، مثل انجلترا، من يبيع السلاح الى طرفي النزاع في نفس الوقت اثناء الحرب بينهما.

هذه نبذة سريعة عن الوضع الاوروبي قبل الاجتياح الروسي. غير ان تعزيز موسكو لقواتها العسكرية على الحدود الاوكرانية جعل الغرب، الاتحاد الاوروبي والناتو، متأهبا للمواجهة، حيث شرع الغرب يبحث ويخطط لردة فعل إن دخلت القوات الروسية الاراضي الاوكرانية. وفي تلك الاثناء ظهر اختلاف الآراء بين دول الغرب واضحا، فمنهم من طرح الحل الدبلوماسي، ومنهم العسكري، ومنهم من شرع بالتهديد الاقتصادي. ولكن لم يظن احد ان موسكو ستجتاح اوكرانيا، وان تعزيز قواتها على الحدود لا يمكن له ان يكون الا تهديدا لنيل بعض المطالب. ولكن موسكو حيبت آمال المتفائلين، وسرعان ما حدثت "الصدمة"، المفتعلة أو المفاجأة، فلا أحد يعلم الحقيقة للآن، سارع الغرب في دراسة كيفية استثمارها من أجل إعادة ترتيب البيتين، الأوروبي والناتو.

ما يحدث في الاتحاد الاوروبي بعد الاجتياح؟

على الجانب الانساني، بدأ الحديث عن وفود اللاجئين، وليس المهاجرين او المرفهين، كما اطلق على غير الاوكرانيين، وسارعت الدول التي اقفلت حدودها بقوانين صارمة وجدران سلكية شائكة الى كسر هذه القوانين وازالة الموانع، وباشرت باستقبال اللاجئين الاوكرانيين باعداد لم يسبق لها مثيل، قبل ان تلتفت هذه الحكومات الى تعديل قوانينها في البرلمان، او  اصدار قوانين خاصة متعلقة بهذا الشأن. ووصل عدد النازحين اليوم لاكثر من ثلاثة ملايين نازح، ومع ذلك لم تشتك أية دولة اوروبية من هذا العدد أو تبدي عجزها المادي واللوجستي، كما فعلت معظم الدول الاوروبية ابان النزوح السوري والافغاني قبل بضعة سنين. وفي الجانب الانساني ايضا، تقر القوانين الاوروبية بعدم السماح لمواطنيها المشاركة في حروب الدول الاخرى، وبموجب هذه القوانين، نزعت جنسيات العديد من المواطنين الاوروبيين الذين انضموا الى تنظيم داعش، ودخل اخرون السجن، ولا يزال الآلاف من زوجات اعضاء داعش يمكثون مع اطفالهم في مخيمات لا انسانية في سوريا، ينتظرون السماح لهم للعودة الى أوطانهم في اوروبا. اما اليوم، فقد سمحت الحكومات الاوروبية جميعا لمواطنيها الراغبين في الانضمام الى فرق القتال الاجنبية التي شكلها الرئيس الاوكراني "زيلينسكي" ودعى المواطنين الاوروبيين للانضمام اليها من اجل الدفاع عن اوكرانيا، الذي قرنه بالدفاع عن اوروبا والديمقراطية وحقوق الانسان والمدنية والوجود الانساني، الخ.

اما على الجانب العسكري، وبعد ان شرحنا الخلافات التي كان يعاني منها الناتو، اخذت الدول الاوروبية بعد هذا الاجتياح بالتنافس على من يدفع اكثر للناتو، ومن ينفق اكبر حصة من الناتج الاجمالي السنوي لدولته على التسليح العسكري وتحديث الالية العسكرية للبلاد. اما مصادرة الاموال المتراكمة في البنوك والاعمال الاوروبية لرجال الاعمال والاثرياء الروس الموالين، قسرا او بحرية ذاتية، الى حكومة بوتين، فهي عملية اعتاد الغرب على ممارستها بحجة الضغوط على العدو، غير ان الدراسات الاوروبية تؤكد انها سرقة مشروعة، تمارسها الدول الاوروبية لجلب رؤوس الاموال الخارجية، بغض النظر عن مصادرها وطريقة جمعها من اجل الاستفادة منها في استثمار البلاد، وفي مصادرتها عند الضرورة. وهذه الثروات تقدر الآن بآلاف مليارات اليوروات. 

كل هذه الامور لم تكن مطروحة من قبل، ولم يحلم اي سياسي اوروبي لنفسه الحديث عنها او حتى ذكرها، وذلك لعلم السياسيين انها لن تلاقي رواجا بين الناخبين، بل على العكس، يمكن لها ان تقلل من شعبية هذا السياسي او ذاك. فاستقبال اللاجئين اصبح خلال العقدين المنصرمين من تابوهات الحوار، واسلم الجميع، خاصة بعد الاحداث الارهابية في العديد من الدول الاوروبية، ان اوروبا افضل حالا بقلة الوافدين عليها. إلا ان الامر وعلى غفلة انقلب، واخذ الناس اليوم يذهبون بسياراتهم الى الحدود الاوكرانية البولندية لجلب النازحين الاوكرانيين، واستضافتهم في بيوتهم. والجدير بالذكر، ان مثل هذا الامر حدث عندما دخلت اعدادا هائلة من النازحين السوريين والافغانيين الى اوروبا، غير ان الدول الاوروبية منعت ذلك بقوانين برلمانية واعتبرت مثل هذا الفعل تدخلا في شؤون البلاد ومخالفة يعاقب عليها القانون. أما اليوم، فان الحكومات تكافئ من يفعل ذلك.

كان شعار تقليص التسلح العسكري ونزع السلاح من اوروبا سائدا منذ السبعينات، الا ان وقوع "الصدمة" الأوكرانية سمحت للساسة الاوروبيين، ولاول مرة، ان يجهروا بخططهم في تصعيد التسلح بشكل هستيري، وعلى مستويات لم يسبق لها مثيل، وصلت الى مليارات اليوروات، قررت ان تضخ في انبوب التسلح. كذلك وافقت بعض الدول على تواجد قوات اجنبية على اراضيها، واخرى وافقت على نصب الاسلحة النووية. وبذا استطاع الناتو ان يتجاوز خلافاته ويحظى ليس بقبول لم يحلم به احد، وانما حصل على اتحاد في الرأي لم يحدث منذ تأسيسه، كما جاء على لسان الرئيس الاميركي بايدن يوم أمس في مؤتمر الناتو الاخير. وأضاف في نفس التصريح، ان الحكومة الاميركية تنوي ارسال مائة الف جندي اميركي إلى اوروبا، لتوزيعهم على أراضي الدول الاوروبية. والجدير بالذكر ان هذا العدد يوازي عدد الجنود الذي وضعتهم موسكو على الحدود الاوكرانية قبل بداية الاجتياح.

الدروس والعبر من الكوارث

هناك من يستفيد ويعتبر بدروس الكوارث والحروب، وهناك من يسبح في مياه راكدة، يظن ان ما يحدث ليس الا عارضا ينتهي بانتهاء الحدث. فهل انتهت الثورة الايرانية بخروج الشاه من ايران واعتلاء الخميني سدة الحكم؟ وهل انتهى اسقاط النظام الفاشي في العراق باعدام صدام وتنصيب الشلة السياسية الحالية؟ وهل انتهى دور اسرائيل بعد اعلانها دولة رسمية في عام 1948؟ وهل انتهت حالة الارتباك التي جلبها فيروس كورونا على العالم اليوم؟ وهل انتهت تقسيمات الشرق الاوسط بانتهاء الاستعمار المباشر وتقسيم المنطقة الى دول ودويلات بعد انتهاء الحرب العالمية الاولى؟ وهل ستنتهي الحرب على اوكرانيا بعد ان يجلس الطرفان ويقبلا بشروط بعضهما؟ وغير ذلك من الامثلة تفرض مساءلة اصحاب السلطة، ماذا سيفعلون بعد انتهاء هذه الحرب.