الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الأزمة الأوكرانية.. من منظور تفاوضي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

اللاعبون والأطراف كثيرون، والخبرات عريقة، والقضايا متشابكة، والمصالح بين اتفاق واختلاف، واللعب على الحبال مستمر، والتردد في اتخاذ المواقف مبرر، وأبعاد الماضي والحاضر والمستقبل موجودة ونافذة، والعوامل المحلية والاقليمية والدولية ذات تأثير كبير، والبؤر الساخنة تغلي، والتاريخ والجغرافيا والثقافة تتفاعل بشدة، وزعماء الدول الكبرى موجودون بكل ثقلهم، والشحن الإعلامي عالي الضجيج ويشحن الجميع، وإثارة النعرات القومية محتدمة، والمحللون مختلفون، والتحالفات الحالية والمستقبلية على المحك، والحشد يتنامى، والمزايدات في ارتفاع، والاسقطاب على أشده، والأسلحة مشرعة، والجيوش متأهبة، والمراقبون من بعيد متنمرون، والمخططون يحسبون ويرسمون، وجبهات جديدة تُفتح، وخلافات قديمة تُطوى، والتوقعات والاحتمالات على مدار الساعة، كل ذلك وأوكرانيا تجسد دولة مرت بسلسلة من الاتحاد والانفصال، والغزو، والهدم والبناء، وتعج بتراث أليم من ملايين القتلى في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وسجل من الحروب الأهلية، واختلاف في توجهات السكان بين مؤيد للغرب ومؤيد للشرق، وخبرات شعبية مخزونة في القتال، وحروب منظمة وحروب العصابات،  والتعصب متمادي، لدرجة وجود بلاشفة ونازيين، ومنع استخدام اللغة القومية لجزء معتبر من السكان.

ومع أخذنا في الاعتبار قيمة وخطورة مناصب القيادات العليا في روسيا، أمريكا، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، والصين، غيرهم، وقوة دولهم الاقتصادية والعسكرية والسياسية والدبلوماسية، ومراكز البحوث الاستراتيجية التي من خلفهم، نستطيع القول بكل ثقة، وبما تعلمناه من أدبيات وعلوم وفنون التفاوض على أيدي الجهابذة المتخصصين، أن هؤلاء القادة قد أخطأوا خطأ أوليا وأساسيا يتعارض مع تلك الأبجديات!

لقد تعلمنا أن نتفاوض على قضية أو مشكلة Issue or Problem ولا نتفاوض على مواقف أو أشخاص Positions or people وأن نفصل بين هذا وتلك. فموقفي وأيديوليجيتي كشخص مفاوض وحبي أو كرهي لمن يتفاوض أمامي لا يجب بحال من الأحوال أن يؤثر على موقفي وتقييمي وسلوكي في عمليات التفاوض وسلوك الطريق الأمثل لحل القضية التفاوضية. أي أنه علينا أن نفصل القضية أو المشكلة التي نتفاوض بشأنها عن الأشخاص الذين نتفاوض معهم. كما تعلمنا في التفاوض أنه ليس هناك طعاما مجانيا No Free Food. وأن عمليات التفاوض أخذ وعطاء. والأن وباختصار شديد، نوضح الأخطاء التفاوضية التي وقع فيها كبار القادة المنغمسين في الأزمة [وقد يتساءل القاريء، هل هؤلاء القادة وطابور الخبراء والمستشارين ومراكز الأبحاث التي خلفهم، لا يعرفون ذلك؟ بالطبع يعرفون، ولكن ظروفهم الحالية المحيطة بهم دفعتهم الى غير سلوك الطريق التفاوضي الأمثل.]

بوتين: الرئيس بوتين الذي تلتصق به الشخصية الكاريزمية، وشديد الإعتزاز ببلده وبنفسه، وتحيط به حالات الإعجاب وألقاب القيصر الذي يعمل على إعادة أمجاد الدب الروسي وعظمته، والذي يعتقد أنه لو كان حاكما في الثمانينيات لما حدث تفكك للإتحاد السوفيتي عام 1991. والذي يعلن كل فترة عن امتلاك سلاح فتاك غير مسبوق عالميا. هذا الزعيم قام بحشد قواته على حدود أوكرانيا في أحلك ظروف الشتاء، وفي اعتقادي الجازم، أنه حشدها ولم يكن في نيته ولا في مخططه الحرب. كان فقط يرسل رسالة الى الغرب أنه لن يسمح بدخول أوكرانيا حلف شمال الأطلنطي. وكان [الحشد مع نية عدم الحرب] هو الخطأ القاتل الذي ارتكبه بوتين، وزاد الخطأ وتفاقم عندما أعلن هو وجميع المسؤولين الروس، على كافة الأصعدة الدولية والإقليمية والمحلية أنه لن يحارب [ رغم القاعدة التفاوضية لا مكاسب مجانية، فما دمت لن تحارب لن نعطيك شيئا في المقابل]. وتعددت أخطاء الرئيس بوتين، عندما طلب ردا مكتوبا من الولايات المتحدة. وكل ذلك أعطى الغرب مهلة ووقتا لتزويد أوكرانيا بالسلاح، وتجهيز الجيش وتحفيز الشعب الأوكراني للقتال في حالة حدوث الغزو الروسي لبلادهم. كان استرجاع بوتين عام 2014 لشبه جزيرة القرم، وايجاد دونيتسك ولونجانسك كجزئين منفصلين عن اوكرانيا، دون حدوث أزمة عالمية، مشجعا لبوتين لحشد جيشه، وفاته أن العالم غير العالم والزمن غير الزمن والزعماء غير الزعماء.

بايدن: تنفست أمريكا وتنفس العالم الصعداء بتنصيب بايدن رئيسا لأمريكا، وانتهاء ولاية ترامب الذي أشاع الاضطراب في العالم بأسلوب البلطجة والأمر الواقع والحب والكره وإلغاء العقلانية وأدبيات وأصول العلاقات الدولية، وتسببه في تلطيخ وجه أمريكا لدى الأصدقاء قبل الأعداء. ولم يمض عام حتى اتهم بايدن بالضعف وعدم الحسم، وظهور ترامب من جديد على الساحة الإعلامية وإعلان أنه سيترشح في الانتخابات القادمة. في هذه الظروف جاءت أزمة أوكرانيا على طبق من ذهب للرئيس بايدن، حيث معركة التجديد النصفي للكونجرس، ووجود تهديد حقيقي بفقد الأغلبية الهشة للديمقراطيين، والذي إن حدث، فسيكون بايدن بالتعبير المعروف "بطة عرجاء" والقضاء على فرص الحزب الديمقراطي لعشرات السنين. رتب بايدن ومعه بوريس جونسون والرئيس الأوكراني زيلينسكي، لتجهيز "مذبحة" على أرض أوكرانيا يكون ضحاياها من الجنود الروس ومن الأوكرانيين، ينتج عنها استنزاف الموارد المالية الروسية واضعاف الاقتصاد الروسي، وتشويه سمعة بوتين محليا ودوليا. ولا يتسع المجال لذكر التداعيات الخطيرة التي ستنتج عن ذلك (قصيرة ومتوسطة وطويلة الأجل) ولجأ بايدن الى تكتيك تفاوضي وهو "كسب مزيد من الوقت" لتوريد مزيد من السلاح لأوكرانيا ومزيد من التدريب [لا لكسب الحرب، ولكن للتجهيز للمذبحة إن حدث الغزو] وذلك عن  طريق تكرار "التهديد بعقوبات اقتصادية غير مسبوقة وقاسية ستدمر الاقتصاد الروسي" وكذلك عن طريق رد مكتوب مليء بالصلف والغرور لدفع بوتين للغزو. وهو ما جعل الرئيس الروسي، ينفق مزيدا من الوقت في دراسة  ما هي تلك العقوبات المتوقعة والبحث عن حلول والتنسيق مع الصين وإيران. كل ذلك وأمريكا بعيدة عن الحرب وغير منغمسة، مثلما حدث لها في فيتنام وأفغانستان والعراق. ولم يبق أمام بوتين غير ثلاث مسارات رئيسية وكلها انتصارات لبايدن (الإنسحاب من الحدود أو كما كنت، أو الغزو، أو البقاء على الحدود دون غزو مستهلكا الجهد والمال والمكانة)

بوريس جونسون: يمثل الإنتهازية الإنجليزية المتأصلة، والتبعية لأمريكا، حيث يزود أوكرانيا بالسلاح ويكرر نغمة العقوبات غير المسبوقة على روسيا، ساعيا لتعضيد منصبه المهدد بفقده في أية لحظة. مع الأخذ في الاعتبار أن بريطانيا لم تعد جزءا من الاتحاد الأوربي.

ماكرون: على أبواب الإنتخابات، ويحتاج للعب دور مؤثر في حل الأزمة، ويريد أن يلتزم بما قرره علنا حيث أعلن مرارا وتكرارا في حقبة ترامب أن الأمن الأوربي لابد أن يعتمد على الأوربيين ولا يتسول الأمن والحماية من أمريكا. لذلك فمن المؤكد أن يلجأ له بوتين للمساعدة في الحل ويستفيد كلاهما.

أولاف شولتس: من حظه العاثر أن يخلف الزعيمة القوية انجيلا ميركل التي كانت من الجرأة أنها الوحيدة التي اعترضت وحدها في مؤتمر بوخارست عام 2008 على دعوة حلف الناتو لأوكرانيا وجورجيا للإنضمام للحلف. وقالت إن ذلك يمثل تهديدا حيويا لروسيا، والتذكير بأزمة الصواريخ السوفيتية في كوبا عام 1962 والوقوف على حافة حرب نووية. حيث لم يسمح جون كينيدي بوجود صواريخ سوفيتية في جزيرة قريبة من أمريكا، فما بالنا بأوكرانيا المشتركة في الحدود مع روسيا بحدود طولها يزيد على ألفين كيلو مترا. كما تتنازع شولتس الكثير من العوامل، فهو يمثل أقوى دولة في الاتحاد الأوربي، وامدادات الغاز الروسي تمثل 49% من احتياجاة ألمانيا، والعقوبات المحتمل فرضها قد تطال الشركات الألمانية، والصادرات الألمانية التي بلغت 1700 مليار دولار عام 2019 قد يصيبها الضرر الشديد. ومن مصلحة هذا المستشار ألا ينجرف وراء التأييد الأعمى للتصعيد، فالقوة التي يريد أن يثبتها وهو يخلف ميركل في موقفها، تكون بالحكمة وليس بالتصعيد.

شي جين بنج: الزعيم الصيني الفذ، والذي أعلنها أن المارد الصيني انطلق ولن يستطيع أحد أن يوقفه، وحيث تفوقت الصين في حجم صادراتها السنوية على الولايات المتحدة الأمريكية. وزاد الاحتياط من العملات الأجنبية عن 3 ترليون دولار، وزادت استثماراتها في أذون الخزانة الأمريكية على واحد ترليون دولار. وهو ما جعل أمريكا وبريطانيا يضعان عدوهما الرئيسي "الصين" وليس روسيا، وبالتالي كانت الخطة إضعاف روسيا واستنزافها داخليا وخارجيا حتى تنهار وتصبح عديمة الجدوى كحليف للصين، ومن ثم تم تشكيل حلف جديد بين استراليا والمملكة المتحدة وامريكا  AUKUSليكون القاعدة الرئيسية للمجابهة مع المارد الصيني وتزويد استراليا بغواصات نووية، واعتبار حلف الأطلنطي من الترتيبات القديمة متناقصة القيمة. ومن ثم على المارد الصيني أن يدخل على الخط، ويحافظ على وجود روسيا قوية، وكانت قطرة في بحر ما جرى في شهر يناير الماضي من مناورات روسية صينية ايرانية.

الحل على طريقين:

  1. أن يتم تفويت استدراج روسيا لمذبحة في أوكرانيا، وارسال روسيا رسالة رسمية لمجلس الأمن بأنها تتعهد بعدم غزو أوكرانيا [وهو ليس تراجعا، فروسيا أعلنت ذلك مئات المرات] لكنها تحتفظ لنفسها بحق الدفاع عن نفسها واتخاذ ما يلزم من اجراءات في حالة دخول جمهوريات أوكرانيا وجورجيا و...في حلف شمال الأطلنطي، مثلما فعلت الولايات المتحدة الأمريكية في أزمة الصواريخ في كوبا عام 1962. وأن يصدر هذا البيان بتأييد من حلفاء روسيا. وبذلك تكسب روسيا التعاطف والاحترام
  2. أن يتدخل بعض الزعماء كوسطاء لحل الأزمة، بعيدا عن الشخصنة، وحفظ ماء الوجه للأطراف التي شخصنت الأزمة. ولهيب النار من مستصغر الشرر، ولا يمكن لأحد أن يتنبأ لو اشتعلت الحرب الى أين تنتهي، والضرر سيطال الجميع.