الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

أسمهان.. الصوت والصدى

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

سامح محجوب
كالأساطير والملاحم الكبرى كانت حياتها التى - رغم قصرها - كانت تمثل تاريخا حافلا بالأحداث والحكايات التى لم يهدأ غبارها حتى الآن.. تماما مثلما كان جمالها الصارخ بالحيوية والأنوثة والخصوصية... وصوتها الذي لم يعرف الغناء العربي مثله حتى الآن.. صوتها الذي يتسرب كما قيثار سماوي عتيق متسللا بخفة ملائكية إلى أرواح سامعيه تاركا إياهم فى نشوة ( أسمهانية ) لا توجد إلا فى حنجرة الأميرة الدرزية آمال فهد فرحان الأطرش ابنة الأمير فهد الأطرش أحد أمراء الدروز الذين كانوا يقطنون جبل العرب بسوريا.. والتى جاء تاريخ ومكان ميلادها غامضا ومثيرا تماما كحياتها.. حيث تجمع أغلب المصادر أن ميلادها كان فى الخامس والعشرين من نوفمبر لعام 1912 على متن سفينة بضائع قادمة من ميناء ( أزمير ) بتركيا إلى ميناء بيروت بلبنان.. عاشت طفولتها الأولى فى بلدة ( السويداء ) عاصمة الدروز فى كنف والدها فهد الأطرش إلى جانب شقيقيها فؤاد وفريد الأطرش إلى أن اشتدت ضراوة ثورة الدروز ضد الاستعمار الفرنسي.. فكان أن خافت الأميرة علياء المنذر - والدة آمال - على أبنائها من أن يسقطوا فى يد الفرنسيين - كرهائن حرب - فقررت أن الهرب بهم إلى مصر - التى دخلتها بدون تأشيرة دخول بناء على توصية من سعد باشا زغلول رئيس وزراء مصر آنذاك.. الذى فعل ذلك تعزيزا لثورة الدروز ضد الاستعمار الفرنسي... وفى مصر عاشت الأميرة الدرزية وأسرتها ذات الحسب والنسب العريق عيشة متواضعة للغاية فى حي ( الضاهر ) ذات الأغلبية الشامية آنذاك..ورغم ذلك حرصت علياء المنذر على تعليم أولادها فى مدارس ( الفرير ) مدارس الطبقة العليا فى المجتمع المصري رغم ظروفها المادية الصعبة التى اضطرتها إلى العمل كمطربة فى الأفراج والليالي الخاصة حيث كانت تجيد العزف على  آلة العود بمهارة فائقة  كما كانت تمتلك صوتا جميلا... ومرت الأيام طويلة وشاقة على الأميرة وأبنائها الثلاثة ( فؤاد وفريد وآمال ) الى أن كبروا وبدأ فؤاد وفريد يعملان فى مهن متواضعة لمساعدة أمهما.. وشيئا فشيئا بدأ فريد يحترف الغناء فى الصالات الكبرى كصالتي ماري منصور وبديعة مصابني.. كما بدأ يكتشف الموهبة الاستثنائية فى صوت أخته الصغيرة آمال فكان أن شجعها على الاحتراف بل وقام بدعوة كبار ملحنى مصر لسماع صوتها الذى فاجأ الجميع بنقائه وتفرده وندرة وجمال خامته..  ودخلت الأميرة الصغيرة آمال الأطرش الماراثون  الفنى تحت رعاية أساطين الموسيقى فى بدايات القرن المنصرم ( القصبجي - السنباطي - داود حسني - محمود صبح - فريد غصن - زكريا أحمد - مدحت عاصم ) وخاصة داوود حسنى الذى بذل جهدا  كبيرا فى تدريبها بل واختار لها اسمها الفنى لتصبح الأميرة الدرزية الفاتنة آمال الأطرش المطربة الواعدة ( أسمهان ) الاسم الذى اخترق حاجز الصوت والضوء قاطعا أميالا من النجومية والشهرة فى فترة قصيرة جدا استطاعت خلالها أسمهان أن تحجز لنفسها مكانا ومكانة خاصة جدا وسط نجمات الصف الأول من مطربات هذا الزمن من أمثال ( منيرة المهدية - روحية خالد - نجاة علي - أم كلثوم - ليلي مراد وغيرهن ) وانهالت العروض الفنية على المطربة الأميرة من شركات الاسطوانات وقامت بتسجيل عدد كبير من الأغنيات أحدثت صدى هائلا فى الوسط الفني..إلا أن أسمهان - رغم ما حققته من نجاح لافت فى فترة قصيرة جدا - لم تكن تنوى احتراف الغناء وإن كانت تحبه وتعشقه كهواية.. حيث كانت ترى فى نفسها دائما الأميرة التى لايجب أن تغني للناس مقابل أجر.. إلا أن ظروف أسرتها المادية الصعبة وحاجتها النفسية الملحة للأضواء والشهرة والمجد وتعويض ما فقدته كأميرة.. كان الدافع القوي وراء استمرارها رغم الممانعة العنيفة من جانب أخيها الأكبر فؤاد الأطرش وربما من جانب والدتها أيضا التى كانت تخشى من أهلها فى جبل الدروز الذين قرأوا أخبارها الفنية فى الصحف بالفعل وأرسلوا ابن عمها الأمير حسن الأطرش ليمنعها من الاستمرار فى مزاولة الفن...إلا أن الأمير الشاب وقع أسيرا لدى العيون الخضراء الداكنة لابنة عمه منذ اللحظة الأولى وقرر أن يعود بالأميرة الى جبل الدروز كزوجة...  لتمكث بين السويداء وبيروت ودمشق مايقرب من ست سنوات أنجبت خلالها ابنتها الوجيدة (كاميليا ) ست سنوات لم تستطع أسمهان أن تستكملهم بعيدا عن الغناء وعالمه السحري الذي كان يلاحقها فى صحوها قبل منامها..فكان أن طلبت الطلاق من حسن الأطرش وعادت الى مصر عام 1939 لتستأنف نشاطها الفني كمطربة وممثلة حيث شاركت عام 1941 فى بطولة فيلم ( انتصار الشباب ) أمام أخيها فريد الأطرش.. الفيلم الذي أخرجه أحمد بدرخان الذى تزوج من أسمهان فور الانتهاء من تصوير الفيلم مباشرة.. الزواج الذي لم يستمر طويلا نظرا لعلاقات أسمهان التى بدأت تكبر وتتوغل بكبار رجال السياسة والصحافة والفن ونزوعها المستمر للتمرد على القيد والميل إلى التغيير.. الأمر الذي لم يتفق وطباع بدرخان...وشيئا فشيئا تجاوزت أسمهان صفة ومرحلة المطربة لتصبح سيدة مجتمع شهيرة يخطب ودها كبار رجال المجتمع من أمثال محمد التابعي الصحفي الأشهر آنذاك وأحمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكي للملك فاروق.. هذا الى جانب علاقاتها المتشعبة مع كبار ضباط الإحتلال البريطاني الذين أدخلوها شرك اللعبة السياسية كعميلة وطنية تقوم بتسهيل مهمة قوات الحلفاء فى منطقة جبل الدروز.. إلا أن اللعبة أعجبت الأميرة الحسناء ونسيت تماما مجدها الفني تحت دعوى القيام بدور الزعيمة الوطنية.. ولأنها ليست مؤهلة لذلك استغلها جميع أطراف اللعبة من الفرنسيين والبريطانيين والألمان... ووجدت الأميرة الفاتنة والمطربة الشهيرة نفسها متورطة مع أكثر من جهة.. مما جعلها تتخبط فى حياتها وتسرف فى كل شىء.. فى السهر والشرب والزواج والمال.. كما بات وضعها فى مصر قلقا.. وبعدما كان يسارع الجميع للتقرب منها أصبح يتربصون بها.. حيث أصبحت تعرف أكثر من اللازم بالنسبة لأصدقائها من السياسيين خاصة رئيس الديوان الملكي حسنين باشا.. كما أصبحت العلاقة بها تحفها الكثير من المخاطر بالنسبة لأصدقائها من رجال الفن والصحافة... كل هذه الأسباب مجتمعة كانت لابد أن تقودها إلى حتفها إثر حادث مروع ومريب.. حيث سقطت سيارتها فى ترعة بالقرب من مركز طلخا بمحافظة الدقهلية.. ليشهد الماء موتها  هي وإحدى صديقاتها عام 1944 كما شهد ميلادها بينما نجا السائق ليصبح الحادث لغزا كبيرا حتى هذه اللحظة.. وترحل الأميرة الشابة الفاتنة والمطربة الإستثناء تاركة وراءها الكثير من علامات الاستفهام والكثير من الأسرار... ليبقى صوتها سرّها الأعظم الذي مازال ينبعث من أفق سرمدي شاديا.... أهوى آه يا مين يقول أهوى أسقيه بإيدي قهوة.. إمتى هتعرف إمتى إني بحبك إمتى...ليالي الأنس فى فيينا.. يابدع الورد يا جمال الورد... وغيرها من العلامات الكبرى فى تاريخ الطرب العربي الذى كانت أسمهان إحدى أساطينه وقممه السامقة.