الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

إبداعات البوابة| "حقيبة فريدة" قصة قصيرة لعلياء مصطفى

علياء مصطفى
علياء مصطفى
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

كانت جدائل شعرها الأسود الرخيم قد جُمعت في ضفيرة ثخينة على كتفها الأيمن وعيونها السوداء الواسعة تعكس فرحة طفولية.. بدت في أوج جمالها وشبابها كهيئتها في تلك الصورة التي ضمها ألبوم العائلة القديم ترتدى قميص من الكتان الأبيض، بنطال من الجينز وحذاء رياضي وتحمل في يدها حقيبة سفر صغيرة.. وأنا طفلة أمسك بيدها الأخرى.. نسير في طريق اصطفت الأشجار الوارفة على جانبيه والشمس توشك على المغيب.. انكشف المشهد عن كوبري معدني قديم يربط ضفتي النهر.. توقفت ودفعتني برفق للأمام والتفت عائدة.. سرت بجسدي رعشة وأنا أتابعها تبتعد.. ندت عنها التفاتة وأشارت بالوداع وسمعت صدى صوتها يتردد: فريدة.. تركت خلفها ابتسامة وهي تغيب.. لم أدرى ماذا أفعل.. بدا المكان موحشا والأشجار تزداد طولا والظلام يغيم عليها.. عبرت النهر وحيدة.. وعلى الضفة الأخرى وضعت يدي على صدري أقاوم ألم مفاجئ.. أنثنى الى الأمام ثم أسقط.

ظلام حالك.. أرغب في الصراخ ولا أستطيع.. أود البكاء لكن دموعي هاربة.. أنفاسي تختنق.. ألمح ضوء خافت على يساري.. أحاول أن أتبين المكان.. تمر اللحظات ثقيلة.. أنكمش.. أضم أجزاء جسدي إلى بعضها.. أصير كرة صغيرة عالقة في اللامكان واللازمان.. أستجمع شجاعتي لأستكشف المجهول وببطء أحاول الوقوف.. تنغرز في قدمي أشياء ذات حواف مدببة.. تعيدني الى أرض الواقع صرخة مكتومة ندت عنى.

أعتدل واقفة.. تعود البوصلة الى عملها وعلى الضوء المنبعث من عامود الإنارة خلف الشباك أسير الى الناحية الأخرى من الحجرة لأضغط زر الإضاءة.. أتنهد بعمق وأنا ألمح عقارب الساعة تشير الى الثالثة صباحا.. أجلس على حافة سريري أفرغ قارورة من الماء البارد في حلقي الجاف ثم أعود لألتقط المكعبات المبعثرة على الأرض وأضعها في الصندوق بعدما أدت وظيفتها المعتادة في أيقاظ حواسي.. يعتقدون أنى أحتفظ بها لأنني أدمن إعادة ترتيب ألوانها على كل جانب والحقيقة أنى أجدها لعبة سخيفة بل لا أتذكر من أهداني إياها.. كنت قد توصلت الى فكرة تركها على الأرض قبيل نومي بعدما انغرز أحداها في قدمي صدفة أثناء حالة فقدان الذاكرة المؤقت التي تعقب استيقاظي من ذلك الحلم المتكرر.. حينها أدركت أن ألم انغراسها في قدمي أهون كثيرا من ذلك الشعور القاسي الذي يعقب الحلم  

سنوات برقت منذ المرة الأولى التي رأيت فيها هذا الحلم وأصيبت بتلك الحالة.. مازالت أذكر التفاصيل.. كنت في السابعة عشر من عمري أنام على السرير المجاور لوالدتي التي أعياها المرض العضال بغرفة العناية المركزة بالمستشفى التي يملكها ويديرها أبى الطبيب المعروف.. وكانت حالتها الصحية قد تحسنت في اليومين السابقين وأشرق وجهها بعد شهور من الذبول.. رغم ذلك صممت على البقاء بجوارها.. تلك الليلة رأيتها في الحلم على هيئتها في الصورة التي تجمعنا بألبوم العائلة عندما كنت طفلة.. استيقظت على جلبة في الحجرة وأبى يمزق قميصها ويهوى بتلك الأشياء على صدرها فتنتفض وطاقم التمريض يتحرك بارتباك.. جذبتني إحداهن لخارج الحجرة.. مرت دقائق كالدهر.. شعرت بألم شديد بصدري.. ظهر بعدها أبى ولم يكن بحاجة الى أن يخبرني شيء.

منذ ذاك الحين.. صار هذا الحلم يراودني ..يعيد نفسه على فترات ويعقبه حالة من فقدان الذاكرة المؤقت.. شعور لم يخطر ببالي مدى قسوته قبل أن أعيشه.. صرت أتعجب عندما أسمع الآخرين يستخدمون بعض العبارات مع الاستهانة بحقيقتها: النسيان نعمة.. فكرني لأن عندي الزهايمر.. وغيرها.. لو علمتم حقيقة ما تقولون.. الرعب ذاته أن تجد نفسك لا تعلم شيء عن أي شيء.

بعد أيام من رحيلها وصلتني حقيبة سفر صغيرة من المستشفى تضم أغراض تخصها: قميص من الكتان الأبيض، بنطال من الجينز، حذاء رياضي، عطرها المفضل، طلاء أظافر وروج بلون وردى وسلسلة قصيرة تحمل أسمي: فريدة.