الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

عملة نادرة.. جمعت بين الكفاح والمبادئ

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

في صيف ٢٠١٦، كنا نستأجر قطعة أرض زيادة على أرضنا التي ندرت جودتها للاعتماد علي المياه الجوفية في الري قرابة الـ ١٠ أفدنة في قرية "الشيخ عبد اللاه" من نوائي قرى مركز سمالوط ، ويفصلنا عنها عدة كيلو مترات، في الفترة ذاتها كانت معمورة بمحصول القمح واكتمل نضجه وأصبح مهيأ للحصاد، وكنت دائمًا أصنع مواقف للهروب من هذا الموسم بأية حجة لما فيه من مشقة وعناء بجانب حرارة الشمس الملتهبة، على الرغم من قيامي بدور يبدو للبعض خفيفا ولكنه بالنسبة لي كجبل أحد؛ وهو استقبال حبوب القمح بعد تهشيم  حزم النبات في آلة نسميها في إقليمنا "الدراسة" والبعض في أقاليم أخرى يسمونها "الهواية".
شاءت الظروف وتخلي عني عقلي لابتكار حجة تنقذني من هذا الموسم، وجاء يوم جمع المحصول، وكأن النوم حُرّم على جسدي ليلته فبت أتذكر هذا اليوم وما سوف يحدث فيه، وعيناي ترتقب باب غرفتي منتظرا لحظة دخول والدي رحمه الله ليوقظني من سكرتي التي أعيش فيها، متمنيًا أن يطول الليل أكثر وأكثر حتى لا تحين تلك اللحظة، ولكن لم يكن عقلي فقط هو من تخلي عني فالتحق الوقت أيضًا لصفوفه وكونوا فريقًا ضد راحتي (هتروح يعني هتروح).
جاء والدي أثناء تواشيح الفجر، وأخبرني أنه حان وقت نزولنا لتجهيز أدوات ومعدات الجمع ونذهب للمسجد للصلاة ثم نذهب مع العمال لمكان العمل، انقبض قلبي وكأن محكوم عليه بالإعدام فُتحت عليه زنزانته وأخذوه لتنفيذ الحكم، شملتنا عناية الله إلى أن وصلنا لمكان عملنا مستقلين سيارتنا الربع نقل، قالت لي نفسي: "ده قدر واتكتب طالما جيت كمل وأبوك بيعمل ده كله ليك ولإخواتك مش لنفسه".
ما بين هذا وذاك بدأنا بوضع المحصول في مكان واحد؛ لأن المساحة واسعة، وهذا يسهل عملية الجمع لكبر المساحة، وبدأنا العمل لمدة ٢٤ ساعة متصلة كان العمال مقسومين لفرقتين كل فريق أخذ نصيب من العمل ١٢ ساعة، أما أنا كصاحب المحصول فكان نصيبي ٢٤ ساعة، انتهى الجمع بفضل الله وقمنا بوضع الحبوب على السيارة لتوصيلها إلي التاجر أو المطاحن على مراحل، وتبقى على الأرض القش المتهشم، وكنا نطلق عليه اسم "تبن"، والتبن يستخدم في أغراض متعددة الأساسي منها تسمين المواشي ودخوله في أغراض صناعية وكذلك مزارع الدواجن.
ثمنه كان يقل عن ثمن الحبوب، فجاء لشرائه تاجر يدعى "عبد المقصود" من قرية بالجوار تسمى ' الحتاحتة'، واتفق معه والدي علي ثمن الشراء وربط ذلك بمبلغ بسيط كعقد للاتفاق 'عربون'، لحين تجهيز نفسه للتحميل والتعبئة، وفي باكر اليوم الأول أحضرت لوالدي تاجر يريد أن يشتري بسعر أعلى بمراحل عن الذي اشتري به عبد المقصود، وكانت لدي والدي علامة إذا ظهرت تيقنت غضبه واختفيت من أمامه على الفور وهي احمرار وجهه، فحدث ذلك وبدأت في الانصراف من أمامه ونادي بأعلى صوته وقال: "أنا متعودتش أكون بذمتين ولا أصغر قدام حد علشان الفلوس ولو جالي حد وعرض عليا مليون جنيه مش هبيع غير للي لساني اتفق معاه"، وضرب لي مثلا وقال: اجعله كحلق التزين في الأذن "الراجل بيتربط من لسانه"، رحمة الله تغشاه وأسكنه سبحانه فسيح جناته.