الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

البوابة القبطية

القس أمير إسحاق يكتب: الأخلاق البروتستانتيَّة

القس أمير إسحاق كلية
القس أمير إسحاق كلية اللاهوت الإنجيلية فى القاهرة
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

أحداثُ الكون تتغيَّر، لكن مبادئ الكون لا تتغيَّر، بل تتبلوَر وتتطوَّر. لأنَّ أحداث الكون مَحدودة بالزَّمان والمكان. أمَّا المبدأ الذى يتجسَّد فى حدثٍ، فإنَّه يدوم طويلًا، إذْ يُصبح المبدأ والحدث شيئا واحدا. وحدث الإصلاح الإنجيلى مُرتبط بمبادئ وقيم الإصلاح، والتَّطوُّر والثَّورة ضِدَّ الطُّغيان والتَّمييز والفساد بكافَّة أشكاله. لذلك، فهو حدثٌ باقٍ ومُمتدّ، يتبلوَر ويتطوَّر فى كلِّ مُناسَبة لذكرى ذلك الإصلاح.
لقد بات معروفًا، للسَّواد الأعظم من الشَّعب الإنجيلي، هذه المبادئ الخمسة التى قام عليها الإصلاح الإنجيلي: «المسيح المُخلِّص الوحيد، الكتاب المقدَّس القانون المعصوم الوحيد، الإيمان وحده الذى يُخلِّص، النِّعمة مؤهِّلُ الخلاصِ الوحيد، وتمجيدُ الله هو الهدف الأسمى الوحيد». أمَّا عن المبدأ الخامس «تمجيد الله»، فهو مُبتغاى مِن هذا المقال.
مِن أهمّ معانى «مجد الله» هو كاملُ صفاته. فالمسيح «هو بهاءُ مجد الله» (عبرانيين 1: 3)، أى أنَّه الوحيد الذى أظهَر صفات الله الكاملة وجسَّدها فى حياته كلِّها، فى أقواله المُدهِشة، وأفعاله المُعجزيَّة والعادية. أمَّا الإنسان فإنَّه يمجِّد الله عندما يعكس صفات الله الأدبيَّة، وهو الهدف الأسمى فى حياة كلِّ مؤمن، أن يُمجِّد الله، أى يعكس فكر الله فى أفكاره وأقواله وأفعاله ورُدود أفعاله. لذلك، قال المسيح لتلاميذه: «فليُضئ نوركُم هكذا قدَّام النَّاس، لكى يروا أعمالكم الحسَنة، ويُمجِّدوا أباكم الذى فى السَّموات» (متى 5: 16). وعليه، طلب الرَّسول بولس من المؤمنين: «وكلُّ ما عمِلتُم بقولٍ أو فعلٍ، فاعملوا الكلَّ باسم الرَّب يسوع» (كولوسى 17:3). لذلك، شدَّد المُصلِحون الإنجيليُّون على ضرورة ترجمة الإيمان المسيحى فى كافَّة مجالات الحياة. فلا يكون الإيمان مُجرَّد مُعتقدات عقائديَّة ومُمارسات طقسيَّة، بل يكون عاملًا وظاهرًا تمجيدًا لله وحده.
وقد قدَّم أولئك المُصلِحون مَفهومًا جديدًا للعمل، ضِمن مفاهيم كثيرة غيَّرت حياة وسلوك البشر. فالعمل ليس وسيلة للكسب والعيش بالدَّرجة الأولى، كما كان سائدًا قبل الإصلاح الإنجيلى فى القرن السَّادس عشر، وحتى الآن أيضًا، إنَّما الكسب والعيش هو نتيجة للعمل وليس هدفه. لذلك، نظر العمَّال الإنجيليّون إلى العمل نظرة مُختلفة عن نظرة بقيَّة العمَّال، حيث رأوا أنَّ العمل الجادّ عُنصرٌ من عناصر النَّجاح الدُّنيوي، وعلامةٌ مرئيَّة نتيجة الخلاص الشَّخصي. فالعمل نشاطٌ جسديّ وذهنيّ، وروحيّ أيضًا لخدمة الله وتمجيده وحده.
فى ذكرى الإصلاح الإنجيلى مُناسَبة مُناسِبة لكى نتعرَّف على نظريَّةٍ قدَّمها عالِم الاجتماع الألمانى (ماكس فايبر 1864-1920م)، هى «نظريَّة الأخلاق البروتستانتيَّة». لم يكُن «فايبر» لاهوتيًّا، ولا إنجيليًّا، ولا حتَّى شخصًا مُتديِّنًا، بل كان مُحلِّلًا اجتماعيًّا، سجَّل ملاحظاته الاجتماعيَّة وقناعاته فقط مِن وجهة نظرٍ اجتماعيَّة واقتصاديَّة. حيث تبيَّن له أنَّ هناك علاقة قويَّة واضحة بين الالتزام بالفِكر الإنجيلي، وبين الإنتاجيَّة فى العمل.
قام «فايبر» بدراسة المُجتمعات الصِّناعيَّة وظهور الرَّأسماليَّة كأسلوبِ إنتاجٍ جديدٍ فى العمل. وأعطى أهميَّة كبرى فى دراسته لتأثير المُعتقدات الدِّينيَّة على الإنتاج فى العمل. وخرج بنتائج هامَّة جدًّا عن تأثير القيم الدِّينيَّة الإنجيليَّة فى عقلَنَة القطاع الاقتصادي، وكافَّة القطاعات الأخرى. وقد وجد أنَّ الزُّهد، وهو الشَّكل الواسِع للتديُّن آنذاك، يتضمَّن توجُّها نحو العمل، لكن مع الالتزام بتحريم مَباهج الحياة والانعزال عن المُجتمع. كما تتبَّع «فايبر» أثر المُعتقدات البروتستانتيَّة، خاصَّة الكالفينيَّة (نسبة إلى المُصلح «جون كلفن» مؤسِّس النِّظام المشيخي)، على نشوء العقليَّة المُنظَّمة الهادِفة، والأسواق المفتوحة، والعِمالة الحُرَّة. فاكتشَف أن قادة قطاع الأعمال، ومُلاَّك رأس المال، والعُمَّال المَهَرة فى الوظائف العُليا، والكوادر الأكثر تدريبًا فنيًّا وتجاريًّا، جميعهم من البروتستانت. ما جعله يؤكِّد أنَّ الأخلاق البروتستانتيَّة من أهم أسباب الإنتاج المُتميِّز لأعضائها. لأنَّها تعِظهُم أنْ يؤدّوا أعمالهم بكفاءة وعدالة وجَدارة، وتدفعهم دفعًا للعمل الأمين المُخلِص، والسَّعى العقلانى وراء الرِّبح بانتظام، وتبُثُّ فيهم روح الانضباط والإنصاف والالتزام. فوفَّرت البروتستانتيَّة بذلك عُمَّالًا جادِّين مُنضبِطين، يتمسَّكون بعملهم كأنَّه هدفٌ دينيّ للحياة، ونوع من العبادة للرَّبِّ بحقٍّ. 
كان (جون كالفن) وراء تأصيل ذلك الفِكر، حيث آمَن وعلَّم بأنَّ الإنسان عندما يختبِر الإيمان الصَّحيح فى حياته، يختبِر أيضًا دعوة الله له إلى العمل الجادّ الأمين المُخلِص العادل. لذلك، فهِم الإنجيليُّون أنَّ دعوة الله إيَّاهم للإيمان والخدمة، لا تكون فى الانعزال عن المُجتمع والزُّهد بالدُّنيا وحياة التَّقشُّف، بل فى المُشاركة فى خدمة المُجتمع وتطويره وتنميته مِن خلال العمل. فخدمة الرَّب لا تكون فقط بالوعظ والتَّعليم والتَّسبيح والصَّلاة، لكن أيضًا من خلال إنجاز الأعمال الأخرى المُتنوِّعة، وإتقانها بأفضَل طريقة مُمكِنة، حتَّى يُصبح العالم الذى خلقه الله عالمًا جميلًا مُمتِعًا. ذلك الفكر الإنجيلى جعل الإنسان المسيحى مَسئولًا فى عمله، ليس فقط أمام رؤسائه فى العمل، بل أمام الله بالدَّرجة الأولى. وجعل العمل، ليس من أجل كسب لُقمة العيْش فحسب، بل من أجل تمجيد الله بالدَّرجة الأولى.
لذلك، اعتبر الإنجيليّون «الكسَل» من أخطَر الخطايا على الحياة الإيمانيَّة، لأنَّه يكشف عن خللٍ فى ذلك الإيمان. قال بولس الرسول للمؤمنين: «إنْ كان أحدٌ لا يريد أن يشتغِل، فلا يأكل أيضًا» (2 تسالونيكى 3: 10). وقال سليمان الحكيم: «أرأيتَ رجُلًا مُجتهدًا فى عمله؟ أمامَ الملوكِ يقِف. لا يقِف أمام الرِّعاع» (أمثال 22: 29). كما رفض الإنجيليون «التَّسوُّل» بشكل قاطِع، لا سيَّما للقادرين على العمل. لأنَّ المُتسولين يتمرَّدون على دعوة الله للعمل.
وبذلك، كان الإصلاح الإنجيلى دعوةٌ للعودة إلى نقاء الدِّين وصفاء الضَّمير، وتحرُّرًا اجتماعيًّا من سُلطةٍ مركزيَّة استغلَّت الشُّعوب باسم الدِّين، وفرضَت الضَّرائب باسم التَّقوى وتحت شعار الإيمان. فكانت الدَّعوة إلى التَّحرُّر الدِّينى والاجتماعى دعوة لرفض الاستغلال والسَّيطرة. فليُنعِم الرَّب علينا حتى نعى ونستوعِب إرث ذلك الإصلاح العظيم، الذى أهداه الربُّ للكنيسة الأمينة فى ساعاتِ ليلِ التَّاريخ الكنسى المُظلم، فتستنير الأذهان والقلوب بنعمة ذلك الإصلاح.

القس أمير إسحاق
كلية اللاهوت الإنجيلية فى القاهرة