السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

اختبار الوقت وتجارب الماضي

الدكتور السعيد عبد
الدكتور السعيد عبد الهادى
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

الزمن هو خير حَكم علي التجارب الانسانية، هذه الجمله ادركت معناها عندما سافرت الي انجلترا سنة ١٩٩٧. كان مشرفي الاسكتلندي، استاذ علاج الاورام النسائية في جامعة مانشستر هنري كتشنر، يكرر هذه الجملة؛

“Wait to see the test of the time”

لم ادرك ماذا كان قصده الي ان سألته ذات مرة؛ ماذا تعني بهذه الجملة؟ اجاب، الوقت هو الذي سيحكم علي صحة مانقوم به اليوم، وعلينا الانتظار الي الغد لمعرفة الحقيقة. تذكرت هذه الجمله عدة مرات خلال الايام القليلة الماضية، وانا اتابع موقف بعض زملاء الماضي من اليساريين، وهم يتحدثون عن مجانية التعليم الجامعي، وعن ضرورة الابقاء علي الدعم علي السلع والخدمات.

ولكي لا يساء فهم كلامي،  لابد من التوضيح انني قد تعلمت في ظل المجانية الكاملة، وبدونها ماكان يمكن ان اتم تعليمي، لا أنا ولا الغالبية العظمي من ابناء المصريين البسطاء. 

ولابد ان اعترف أيضا انني كنت ومازلت معجبا جدا بسياسات الزعيم الراحل جمال عبدالناصر الاشتراكية، وعلي رأسها مجانية التعليم في جميع مراحله، في حقبة الستينيات. وانني كنت في مرحلة الدراسة الجامعية (حقبة الثمانينات والتسعينيات) من المعجبين بالفكر الاشتراكي وضرورة تحقيق العدالة الاجتماعية، وحق الفقير في الخدمات الجيدة والحياة الكريمة، وتكلفة معقولة.

بعد السفر الي انجلترا سنة ١٩٩٧، والانغماس في الحياة اليومية لدولة رأسمالية، أدركت انه لا يمكن تحقيق هذه المعادلة، اغنى الدول لن تستطيع ان تقدم خدمات جيدة، خاصة في التعليم والصحة، دون مشاركة اكبر من المواطنين ودون رسوم تقترب من السعر الحقيقي للخدمة (سعر السوق) مع البحث عن طرق لتخفيف الاعباء علي محدودي الدخل. تجارب التاريخ القديم والحديث تدل علي ذلك. إنهيار الإتحاد السوفيتي وفشل الشيوعية (الماركسية) كمذهب للحياة، ساعد علي تغيير افكاري، التي كانت تميل الي الاشتراكية. لعل ماساعد علي ذلك هو مقابلة زملاء الدراسة من بعض دول اوربا الشرقية، ودول الاتحاد السوفيتي الذي تفتت الي دويلات صغيرة. كان هناك شبه اجماع علي فشل الفكر الاشتراكي، وعن فشل النظرية الشيوعيه. في نفس الوقت، شاهدت نجاح النظام الرأسمالي المنضبط والذي يقدم خدمات مجانية  جيدة لكل المواطنين، متمثلة في نظام التأمين الصحي الشامل، وفي مجانية التعليم حتي المرحلة الثانوية فقط، مع تقديم الخدمة بسعر التكلفة. كل ذلك كان مقترنًا بنظام محكم من الرقابة الصارمة، والمنافسة الشريفة ومنع الاحتكار وتحصيل الضرائب حسب مستويات الدخل.

وفي مصر كانت لنا تجربة مع كل من الرئيس الراحل محمد انور السادات، والرئيس الراحل محمد حسني مبارك. تراجع الرئيس السادات عن تحريك الاسعار سنة ١٩٧٧، فور اندلاع احداث ١٨-١٩ يناير، وظل الرئيس مبارك محافظًا علي عدم ارتفاع الاسعار والحفاظ علي الدعم، مما ادي الي تدهور كل الخدمات التي تقدمها الدولة، خاصة التعليم والصحة.

لقد اثبتت تجارب الماضي محليا ودوليًا ان السوق المنضبطة هي التي تحقق مستوي مقبول من الخدمات للمواطنين، وان الدولة عليها ان تكفل غير القادرين فقط، علي أن يتحمل المواطن القادر تكلفة مأكله ومشربه وتعليمه العالي.

السؤال الان هو، هل معني ذلك ان فرض رسوم أعلي علي التعليم والخدمات هو الحل؟ 

الاجابة طبعا ليست سهلة ولا مجردة.. حيث يجب مراعاة البعد الاجتماعي، في شكل مساعدات وزارة التضامن الاجتماعي، ومنح مجانية من الجامعات للمتفوقين، وقروض ميسرة من البنوك للطلاب الغير  قادرين لمساعدتهم علي استكمال تعليمهم، علي ان تسدد من مرتباتهم بعد عملهم.

الخلاصة التي اقولها لرفقاء الماضي، ان تجارب الدول ليست في صالح الفكر الاشتراكي الصرف، ولكنها ايضا ليست في صالح الفكر  الرأسمالي المتوحش.. علي كل دولة ان ترسم سياساتها حسب امكانياتها وحسب الظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية التي تناسب كل مجتمع. علي زملاء الماضي ادراك ان العودة الي سياسات الحقبة الناصرية لم يعد ممكنا، وان العودة الي سياسات الحقبة المباركية لم يعد مستحبا، وان علينا ان نتكيف مع الزمن وان نتقبل مشاركة اوسع من المواطن القادر علي تحمل تكلفة معيشته، حسب قوانين السوق المفتوح. وعلي الدولة ان تراعي ظروف مواطنيها وان تستمر في تحقيق اكبر قدر من العدل الاجتماعي ومحاربة الفساد والاحتكار واستغلال النفوذ والهيمنه علي مقدرات الشعوب.