وبالفعل التاريخ يعيد نفسه مرتين، الأولى في صورة مأساة والثانية في شكل مهزلة.
وما يحدث من مسخرة على أرض العراق وسوريا وليبيا واليمن واخيرا أفغانستان على يد الأمريكان، سبق وأن فعله البريطانيون وبتكلفة أقل لصنع أوطان شكلية وعلى يد امرأة صنعت التاريخ ومعه مأساة العراق.
هى عالمة آثار، وكاتبة، وضابطة سياسية " قوميسير"، ومستكشفة بريطانية ، متعددة اللغات ذات الشعر الأحمر تتقن ثماني لغات، كانت مستشارة «لبيرسي كوكس» المندوب السامي البريطاني في العراق..هي وتوماس إدوارد لورنس « لورنس العرب».
عندما بلغت السادسة عشرة من عمرها التحقت بجامعة أكسفورد بقسم التاريخ، وكان شغفها بعلم التاريخ، جعلها تتخرج من قسم التاريخ الحديث كأول فتاة تحصل على مرتبة الشرف الأولى لتنطلق بعدها في رحلة الاستكشاف والمغامرة.
كانت متعددة المواهب فهي كاتبة وشاعرة وعالمة ومؤرخة ومحققة بارعة في الوثائق والآثار، مغامرة بجنون، ورحّالة، ومحللة سياسية، ودبلوماسية، وجاسوسة لطيفة على طراز عالٍ.
ملكة العراق غير الـمُتَوَّجة. ابنة الصحراء. أم المؤمنين. كانت تلك بعض الألقاب التى حازت عليها، سافرت آلاف الأميال على ظهور الجمال في الصحارى العربية.
هي من اخترعت وانشأت مملكة العراق وقسّمت الهلال الخصيب ورسمت خرائط دوله كلها وهي من نصّبت الملك فيصل بن الشريف حسين ملكا على العراق.. واقنعت تشرشل بتنصيب عبد الله بن الشريف حسين ملكا على إمارة شرق الأردن.
هى من أنشأت واسست متحف بغداد، واجتمعت مع الثنائي « مارك سايكس،وفرانسوا جورج بيكو » ووضعت لمساتها النهائية علي الاتفاقية الشهيرة.
كتبت إلى والدها، "لن أحاول بعد هذا صنع ملوك. إنه أمر متعب للغاية".
إنها البريطانية الفذة "جيرترود بيل" (1868 -1926). توفيت ودفنت في بغداد.
بدأت قصة جيرترود بيل وبالتالي تاريخ العراق أيضا بثوب للرقص، ترقص في حفلات الرقص في لندن، الذي كان سوق الزواج للشباب الأثرياء.
وعندما لم تحصل بعد ثلاث سنوات على عريس، قررت الترحال وممارسة أنشطة غير عادية، مثل تسلق الجبال في سويسرا والتي يصل ارتفاعها إلى 2633 مترًا. قمة جيرترود في مقاطعة بيرن تحمل اسمها.
ولكن أكثر من ذلك تأسرها الصحراء. في رحلتها إلى بلاد فارس عام 1892 تكتشف بيل عشقها للشرق. تبدأ في تعلم اللغة العربية، وتدرس علم الآثار، وتقوم بأول رحلة بحث في الصحراء السورية.
عن حياتها كان فيلم ملكة الصحراء هو فيلم دراما تم إنتاجه في الولايات المتحدة صدر سنة 2014. الفيلم من إخراج فرنر هرتزوغ، وبطولة نيكول كدمان التى لعبت دورها.
يحكي الفيلم قصة (جيرترود بيل) كمؤرخة، وروائية، وعضوة لجهاز المخابرات البريطانية، لعبت دورًا حاسمًا عام 1920 في وضع مسار للنظام السياسي الجديد في الشرق الأوسط، باعتبارها امرأة شابة متعلمة، فمن الصعب العثور علي زوج في (انكلترا) حينها، فتسافر إلى (طهران). وبعد قصة حب مأساوية مع دبلوماسي ومقامر عريق يدعى (هنري كادوجان)، قررت التخلي عن حياتها الخاصة، واكتشاف المنطقة وثقافتها. وقبل تفكك الإمبراطورية العثمانية تبدأ بتعلم اللغات، وترجمة الأدب، وتجتمع مع كبار الشخصيات الإسلامية في (القاهرة والبصرة وبغداد)، وتكسب ثقتهم من خلال لباقتها وكياستها، لتكون بعد ذلك وسيطًا بين الشرق والإمبراطورية البريطانية.
عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى 1914م، كلفتها الحكومة البريطانية بإحصاء عدد المفقودين من ابناء القوات المسلحة في المعارك على الأراضي الفرنسية، ولفتت انتباه حكومتها عندما رفعت تقريرا سمي بـ «التقرير الشرقي» والذي قدمت به قراءة دقيقة للعلاقات المستقبلية لبريطانيا وفرنسا مع العرب، ورسمت خطة لاستقلال العرب المضطهدين من قبل الأتراك. وبسبب هذا التقرير كلفت بمهمة إلى العراق كعالمة آثار مع الشهير لورنس، لتتغلغل في المنطقة، بهدف معرفة أحوال العشائر والقبائل ودراسة لهجات البدو.
ولعبت دورا سياسيا في منطقة العراق تحديدًا - أعقاب الحرب العالمية الأولى(1914-1918م) عندما عُيّنت كمستشارة للمندوب السامي البريطاني في العراق، وكانت هي وراء تنصيب الشريف فيصل ملكا على العراق، بيل لم تستطع أن تُكبح جماح مشاعرها تجاه العراق فقد أحبت العراق وشعبه بشكل كبير فاعتبرته موطنها الثاني حتى أطلق عليها عدة القاب منها ملكة العراق غير المتوجة وملكة الصحراء وابنة الصحراء، صانعة الملوك. وكانت أبرز أعمالها في العراق تحديد مصير العراق حيث رسمت مع صانع الخرائط البريطاني السير بيرسي كوكس حدود العراق في أثناء الحرب العالمية الأولى وتقسيم المنطقة واختيار الحكام والشيوخ الأكفاء، كما انشأت المتحف العراقي واهتمت بعمليات التنقيب عن الآثار.
كانت آخر مهمة كبيرة تقوم بها بيل، اختتمتها بهذه الكلمات: "قضيت صباحا مفيدا في المكتب لرسم الحدود الصحراوية الجنوبية للعراق"، لكن بعد ذلك بدأ نفوذها يتقلص، ولم يعد أحد في حاجة إليها. وأخيرا انتهى زمانها.
انعزلت بيل، وفي مساء الحادي عشر من يوليو عام 1926، طلبت بيل من الخادمة أن توقظها الساعة السادسة في صباح اليوم التالي. ذهبت بيل إلى الفراش ولم تستيقظ بتاتًا. على المنضدة جانب السرير زجاجة صغيرة لحبوب النوم، لقد تناولت منها جرعة إضافية. هل كان ذلك عمدا؟ هذا لم يتم توضيحه إطلاقًا. قبل يومين من عيد ميلادها الـ 58 غفت إلى الأبد، وهي ترقد إلى يومنا هذا حيث كانت تتمنى: في الأراضى العراقية. في البلاد التي خططت لها.
……………………………..
المصادر:
دراسة "ابنة الصحراء وأم المؤمنين" للدكتورة ايريس موستيجل ترجمة سليمان توفيق.
يوميات الرحالة البريطانية جيرترودبيل، عطية بن كريم الضفيرى،صحيفة الجريدة الحلقة 2014.
الموسوعة الحرة (ويكبيديا)
د.سيد مشرف (دراسة)
صحيفة الرياض 18 يناير 2018.
