السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

قضايا التنوير.. أسئلة وإجابات.. دراسة مهمة نشرها رفعت السعيد ولفتت انتباه عبدالناصر

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

في عام ١٩٦٦، كتب المفكر الراحل رفعت السعيد، وكان وقتها لا يزال باحثًا صغير السن، دراسة لافتًة عن «الاختراق الطبقي لكبار العائلات الإقطاعية لثوار يوليو»، ضمن ملف مُتكامل أعّدتهُ مجلة «الطليعة» عن «الصراع الطبقي والفكري والأيديولوجي في مصر بعد ثورة يوليو» وذلك من خلال قراءة صفحة الوفيات في جريدة الأهرام، إذ وجد نسبة عالية من أبناء ثوار وعائلات من ينتمون للثورة يرتبطون بعلاقات نسب ومصاهرة مع الذين ثاروا عليهم!
هذه الدراسة السوسيولوجيّة الرائدة لفتت نظر الرئيس جمال عبدالناصر، حتى أنه اتصل بصديقه خالد محيى الدين، الذى كان وقتها يترأس مجلس السلام المصري ونائب رئيس مجلس السلام العالمي، يسأله عن المصادر البحثية والعلمية التي استند إليها السعيد في دراسته، خلافًا لصفحة الوفيات بجريدة الأهرام. استفاد الرئيس الراحل من تلك الدراسة إلى الحد الذى كاشف فيه عددا من رفاقه، أعضاء مجلس قيادة الثورة، أو من وزراء حكومات ما بعد يوليو ١٩٥٢، مُحذرًا من خطورة هذه الأوضاع على مسيرة الثورة ومصيرها.
هكذا كان السعيد باحثًا مُتمكنًا من أدواته، وقارئًا يخوض أدق التفاصيل ويربط الأمور والأحداث، لذلك كانت قراءته لجماعة الإخوان ومواقفها وما كتبه عنها عبر عقود طويلة، مرجعًا أساسيًا لكل من يحاول دراسة الجماعة الإرهابية أو معرفة فكرها الظلامي، وهو الأمر نفسه الذي دفعه لخوض العديد من المعارك في قضايا التنوير.
ومن بين أهم الكتب التي ناقش فيها رفعت السعيد الجماعة «حسن البنا.. متى.. وكيف.. ولماذا؟» والذي قدّم فيه سردًا تاريخيًا لتأسيس الجماعة على يد حسن البنا عام ١٩٢٨ كجمعية دينية ذات أهداف خيرية، أو كما قال البنا «جمعية الدعوة إلى كتاب الطريق الأول الذى لا يصلح أمر الناس إلا عليه.. كتاب الله وسنة رسوله». يؤكد السعيد، عبر تجميعه لمادة ثرية وموثقة عن البنا وجماعته: "إن حسن البنا كان حذرًا من السياسة في السنوات العشر الأولى ثم إنه صرّح: «أستطيع أن أجهر في صراحة بأن المسلم لا يتم إسلامه إلا إذا كان سياسيًا بعيد النظر في شئون أمته مهتمًا بها غيورًا عليها...» في «الإخوان المسلمون ١٦/٤/١٩٤٦»، لذلك حين كبر التنظيم ظهر هدفه السياسي كشيء أساسي. يقول البنا: «لقد آن الأوان أن ترتفع الأصوات بالقضاء على نظام الحزبية في مصر، وأن يستبدل به نظام تجتمع فيه كلمة وتتوفر جهود الأمة حول منهاج قومي إسلامي صالح».
كذلك يُضيف كتاب "عمائم ليبرالية في ساحة العقل والحرية"، إلى مؤلفات الراحل حكايات أخرى، إلى تلك التي سردها في كتابيه "الإرهاب المتأسلم" و"المتأسلمون: ماذا فعلوا بالإسلام وبنا؟"، وكتب أخرى، ليستكمل صورة واضحة، كوّنَها ذهنه، عن نماذج التنوير لبعض رجال الدين، في التاريخ العربي الإسلامي الحديث؛ وفي أجواء سياسية متأزمة، عاشتها البلاد العربية، منذ منتصف السبعينيات، اشتدت فيها سواعد التيارات الدينية، حتى صار الإرهاب بصورته الدموية الواضحة التي نعرفها.
يتناول الكتابُ في مقدمة صفحاته، عرضًا سريعًا للتعاريف المتداولة عن الليبرالية، اختار ثلاثة منها؛ ثم تطرق لأفكار سبعة من المتنورين، الذين جمعوا بين الفكر، وكونهم من رجال الدين؛ أولهم رفاعة الطهطاوي، الذي يبدو واضحًا عشق السعيد له، حتى أنه عاد وافتتح به كتابه "بناة مصر الحديثة"، كأحد المتنورين، والمدافعين عن الفكر الليبرالي، بعد أن يستعرض صلته بالحاكم محمد على باشا، الذي أرسله إلى باريس لإكمال دراسته، وهو الفتى القادم إلى القاهرة، على مركب في النيل، بعد أن باعت أمه كل ما تمتلك من حُلي مقابل جنهين. هذا الفتى بعد أن صار إمامًا في التنوير، ترك لورثته أكثر من ٧٠٠ فدان.
يوضح السعيد هذه النقطة عندما يشير إلى أنه طوال الفترة الممتدة منذ قيام الباشا بإلغاء نظام الالتزام، حتى نهاية عهد إسماعيل، كان حاكم مصر هو أكبر مالك للأرض، وكان هو المنبع الوحيد لتملك الآخرين؛ وكان محمد على يختار من يمنحهم الأرض، من بين موظفيه "أي من الطاقم الإداري الجديد الذي تولد عبر تكوين فئة جديدة من المثقفين العصريين، الذين اعتمد عليهم محمد على في بناء جهازه الحديث؛ والذي بقدر ما كان يتعمد ترويعهم، كان يسعى لتطويعهم". ويتطرق السعيد في الحديث إلى جمال الدين الأفغاني، الذي تناوله الكتاب، ومواقفه الفكرية المتناقضة، من أحداث كثيرة شهدتها مصر، التي عاش فيها ثمانى سنوات، قبل نفيه منها؛ وقبلها علاقته بالحكام الذين لازمهم في سنوات حكمهم؛ بداية من السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، إلى شاه إيران ناصر الدين قاجار، إلى الخديو توفيق في مصر، وقدرته الفذة على مواجهة الخصوم. فقد روى الكتاب، أن الأفغاني كان مرة في حضرة السلطان عبد الحميد، أقوى أقوياء زمانه، وأخرج مسبحته ليعبث بها بين أصابعه، وفي هدوء انحنى رئيس الديوان هامسًا، وراجيًا أن يُعيد المسبحة إلى جيبه، لكن الأفغاني رد بصوتٍ عالٍ: "إن حضرة السلطان يلعب بحياة ثلاثين مليونًا من بني آدم، أفلا يلعب جمال بثلاثين حبة من الكهرمان".
وفي جزء آخر، يتناول السعيد بعضًا من ملامح الصراع، الذي دار بين الشيخ الليبرالي على عبد الرزاق، ومجموعة من رجال الدين المتنورين، وسلطة الأزهر التي كانت قد تأثرت بأحداث ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتأثير الإجراءات التي اتخذها أتاتورك، مؤسس الجمهورية التركية، وتشريعاته الداعية إلى فصل الدين عن الدولة، وإخضاعه المؤسسات الدينية للمؤسسات المدنية، وإلغاء منصب الخلافة في عام ١٩٢٤؛ وكذلك بعض ما أثاره كتاب على عبد الرزاق "الإسلام وأصول الحكم"، الذي أشار إلى أن الحكم والحكومة، والقضاء والإدارة، ومراكز الدولة، هي جميعًا "خطط دنيوية صرفة، لا شأن للدين بها. فهو لم يعرفها، ولم ينكرها، ولا أمرَ بها، ولا نهى عنها، وإنما تركها لنا لنرجع فيها إلى أحكام العقل وتجارب الأمم، وقواعد السياسة".
ويُنهي السعيد كتابه، الذي ركز في أغلب أجزائه على موقف هؤلاء المتنورين، من رفضهم لفكرة تولي الحاكم الديني؛ بالحديث عن فلسفة وأفكار أحمد أمين، كأحد رجال الأزهر، وتطلعه من أجل فكر ليبرالي للدين، وكتاباته وإصداراته المتعددة، وأقواله التي تؤكد رفض فكرة الحاكم الديني، ومنها "الحكومة من عمل الشعب، وليس من عمل القدر، وصاحب السلطة يستمد شرعية وجوده من الأمة، التي ينتمي إليها، وليس من أية قوة ما ورائية".