الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

رفعت السعيد مؤرخًا ومفكرًا

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

هناك صنف من الناس، يمثلون بحياتهم ظاهرة أقرب إلى الأسطورة!!..
في حياتنا القليل منهم، فيما تّزخر نفس الحياة بالمئات الذين يملكون الموهبة، ولكن للأسف لا يتركون إلاّ القليل مما أعطاهم الله من موهبة الإبداع، سواء كان على صعيد الفكر أو الأدب أو الفن، حتى بٍتنا نعرف أوصاف "الأديب صاحب الرواية الواحدة، أو المفكر أو الكاتب صاحب المؤلف أو الكتاب أو البحث "الفلاني"!!
*****
عن هذا الصنف من المُبدعين سوف أكتفي بذكر عدد محدود من أسماء كبيرة مثل الأديب السوداني الطيب صالح وروايته الأهم موسم الهجرة إلى الشمال، والشاعر الكبير كامل الشناوي الذي أهّدرّ حياته في الحّكيّ والسهر حتى الصباح ولم يترك من آثاره الأدبية سوى القليل من الشعر، ربما لا يتعدى ما تركه سوى ديوان أو اثنين!!
أما أمير الصحافة المصرية الحديثة، الأستاذ محمد التابعي فلا نجد له سوى القليل من الإنتاج، لعل كتابه "أسرار الساسة والسياسة" هو الأثر الباقي له، والذي تناول فيه الحياة السياسية المصرية قبل قيام ثورة يوليو!.
وعلى صعيد المؤرخين الكبار نجد الأستاذ محمد شفيق غربال صاحب ذلك الكتاب صغير الحجم والخطير بالمعنى التاريخي والثقافي، والذي يحمل عنوانًا لافتًا هو "تكوين مصر" فضلًا عن دراسته الأكاديمية عن "عصر محمد على باشا" مؤسس مصر الحديثة.
*****
أما من كان غزير الإنتاج، رائع الجودة، دقيق المضمون، فنجد أسماء كبيرة مثل الأستاذ العقاد والدكتور طه حسين والأستاذ محمد حسنين هيكل وقيصر الرواية العربية الأستاذ نجيب محفوظ.
*****
طبعًا هناك أسماء أخرى يضيق المجال عن حصرها، لكنهم في العموم هم قٍلة نادرة!
ولذلك فقد سبق أن كتبت عن اثنين منهم، هما الأستاذان هيكل ومحفوظ.. كتبت عنهما باحثًا عن هذا السر العجيب الذي يقف وراء الإنتاج الغزير مقرونًا بالجودة الإبداعية العالية فيما تركوه من آثار!.
حينها لجأت إلى منهج الأستاذ العقاد والذي يُعرف بمفتاح الشخصية لسبر أغوار هذين المُبدعين، إبداع الفكر والتاريخ لـ"هيكل" وإبداع الأدب لـ"محفوظ".
توصلت حينها إلى أن كلًا منهما إلتزم بأسلوب صارم في الحياة لا يّقِدرْ عليه إلاّ من هم أصحاب عزيمة وإرادة وبأس شديد، فضلًا عن قدرة مُذهلة على تنظيم الوقت واستثماره إلى أبعد حد!.. قدرة على ترويض النفس، بل وردعها عن فعل ماهو غير مُنتج ومفيد.. باختصار القدرة على وضع "نظام حياة" والالتزام به.
******
الدكتور رفعت السعيد هو من هؤلاء.. من هذا الصنف النادر من البشر!
ولكي يتضح الهدف والمعنى الذي أقصده وكي أدلل عليه، فسوف أتوقف قليلًا وبنظرة طائرة لعطاء الرجل، قبل أن أتحدث عن ذلك "المنهج أو نظام الحياة" الذي وضعه الدكتور رفعت لنفسه إلى الحد الذي يمكن القول إنه كان أسيرًا له ورهنًا لمشيئته، بعد المشيئة الإلهية بطبيعة الحال التي يخضع لها كل مخلوقات الله.
*****
رحل رفعت السعيد عن دنيانا، تاركًا وراءه نحو سبعين كتابًا، ومئات بل وآلاف المقالات الموزعة على عدد وافر من الصحف تناول فيها موضوعات تتصل بالشأن العام، أو تتحدث عن شخصيات مهمة تركت بصماتها على حياتنا الثقافية والفكرية، أو قضايا موضوعية تتصل بالفكر الديني أو التاريخ الليبرالي الحديث في حياة مصر المعاصرة.
وهذه الطائفة الأخيرة من الكتابات، والتي تتصل بالقضايا الموضوعية التي لا يفقدها الزمن حداثتها واستمراريتها، حرص الدكتور رفعت أن يكون ما يكتبه بمثابة فصل في كتاب!.
وعندما تُكمل السلسلة هدفها وتصل إلى غايتها، يُصدرها في كتاب، والأمثلة على صحة ما أقول، هى تلك الكتب الأخيرة من حياته والتي يجسدها خير تجسيد كُتب مثل "عندما يجدد التجديد نفسه" و"مُجددون ومتأسلمون" و"الصراع بين الإسلام والتأسلم: رؤية تاريخية".
غير أن هناك من الأعمال التي شغلت حيزًا كبيرًا من حياة الدكتور رفعت لم تعرف طريقها قبل إصدارها بين دفتي كتاب، إلى الصحف اليومية أو الأسبوعية، كان من بينها كتابه الرائد "الأساس الاجتماعي للثورة العُرابية" فضلًا عن كتابيه "تاريخ الفكر الاشتراكي في مصر" والذي كتب مقدمته الأستاذ "خالد محيي الدين" والذي كان في ظني هو تمهيد موضوعي وتاريخي وثقافي لكتابه "الحركة الاشتراكية في مصر: ١٩٠٠-١٩٢٥" وهو موضوع الرسالة التي حصل بمقتضاها على درجة الدكتوراة في منتصف سبعينيات القرن الماضي من إحدى الجامعات الألمانية. 
*****
بين المرحلتين الأولى والأخيرة من حياة هذا المؤرخ والمفكر اليساري الكبير، صدرت طائفة كبيرة من الأعمال التاريخية والفكرية المختلفة، وإن كانت جميعها تتسم بلغة أدبية راقية، كسرت هذا الجمود اللغوي الشائع وتلك اللغة الخشبية، عند مجموعة كبيرة من الأساتذة الأكاديميين عند تناولهم الكثير من القضايا إلاّ "ما رحم ربي".
الدكتور رفعت كان له مدرسة خاصة، فالرجل شغل النضال السياسي اليساري كل حياته، ورسالة الدكتوراة التي حصل عليها كانت بالمعني الشعبي الدارج "واخدها على دراعه"، فضلًا عن أن التقارير الأمنية في كل العهود كانت في غير صالحه!.
فكيف والحال على هذا النحو، في بلد تتحكم في كثير من جوانب حياتها الجامعية ومصير العاملين في سلكها التعليمي والأكاديمي، تقارير الجهات الأمنية وتحذيراتها من هذا الأستاذ، أو ذاك الباحث؟!.
وإذا كان هذا الأمر المؤسف في حياتنا الجامعية قد نال من العطاء المُنتظر من شخصية بهذا القدر من الإبداع والبحث، فإن الكثير من الجامعات ومراكز الأبحاث العالمية قد رأت فيما أنتجه الرجل ما يستوجب الاستفادة من عطائه، فقد ذهب شرقًا وغربًا يُحاضرهم، ويتحدث عن تجربته الثرية في حقل البحث التاريخي والسياسي في مصر والوطن العربي.
لم يُهدر الرجل وقته ولا حياته ندمًا وأسفًا على استبعاده عن السلك الجامعي، ففي سنوات طوال توزعت أعماله البحثية بين ثلاث مجموعات موزعة بين مرحلتين فاصلتين من حياته، كانت وجهته الأولى هي البحث في تاريخ الحركة الاشتراكية والشيوعية في مصر، حتى أنه جاء على ذكر كل ما يتعلق بالحركة الشيوعية في تاريخنا المعاصر من صحافة يسارية وتنظيمات شيوعية وقادة سياسيين وعماليين وجماعات يسارية صغيرة أو كبيرة، حتى بات على كل باحث في تاريخ اليسار والشيوعية في مصر أن يذهب إلى أعمال الدكتور رفعت ينهل منها مايريد، وصار عطاؤه العلمي أشبه بعطاء كبار الرواد في حياتنا الفكرية والدينية "أرهقت من يأتي بعده"!
أما المرحلة الثانية في تاريخ الدكتور رفعت فقد أعطى كل جهده للبحث في تاريخ الإسلام السياسي في مصر، وهو ما أطلق عليه مُصطلح "التأسلم" فصار من بعده صكًا يكتبه كل من تصدى للبحث في تلك الظاهرة السياسية في بلادنا!
وكنت من أشد المُعجبينّ بإنتاجه التأريخي والفكري والتأصيلي في هذه المرحلة، ففي نظرة مُدققة وباحثة في نوعية تلك المراجع والمصادر التي رجع إليها، تُصاب بحالة من الدهشة تصل إلى حد الذهول!
فكيف تّسنىّ للرجل العودة إلى أمهات الكتب والأبحاث والدراسات التي تناولت تاريخ الإسلام وأصول الفقه وقواعد الشريعة والسنة النبوية على هذا النحو، حتى تجد نفسك تتساءل ماذا ترك رفعت السعيد لعلماء الأزهر من كتب التراث الإسلامي العريق في كل مراحله وعهوده؟!.
طبعًا لا أقصد خوض الرجل فيما هو غير مُتخصص فيه، فقد تناول ماهو مُتاح لكل باحث حر، وأعني فرع التخصص في "التاريخ الإسلامي" ولم يتطرق الرجل لقضايا أكاديمية في علوم الشريعة أو الحديث أو الفقه، ومن هنا أبّدىّ ليّ الدكتور رفعت خلال زيارتي الأخيرة له في مكتبه بحزب التجمع، سعادته البالغة بصداقة الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر فضيلة الدكتور أحمد الطيب وكذلك صداقته العميقة بفضيلة العلامة الدكتور على جمعة المفتي السابق للديار المصرية، فضلًا عن صداقته العميقة ومحبته البالغة للبابا شنودة رأس الكنيسة الأرثوذكسية المصرية الراحل.
غير أن المسيرة الإنسانية للدكتور رفعت زّينت تلك الأعمال التأريخية، سواء ما كان منها ما يتعلق بتاريخ اليسار المصري أو تيارات الفكر السياسي المُتأسلمة، بكتابته لأربعة كُتب عن السيرة الذاتية وهي ثلاثة أجزاء اتخذت عنوانًا واحدًا هو "مجرد ذكريات" وكتاب أخير، وهو آخر ما تركه للمكتبة العربية كان عنوانه لافتًا هو "الباقي من الذكريات" كأنه يودع به الحياة، حتى إنه لم يبق من الوقت ما يسمح بقول المزيد!
تناول فيه علاقاته أو قُل مُقارباته لثلاثة رؤساء هم: عبدالناصر والسادات ومبارك فضلًا عن علاقته بالمجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية في أعقاب ثورة يناير ٢٠١١.
*****
مسيرة طويلة ومُذهلة من رجل لم يكن همُه الوحيد هو البحث العلمي والتأريخي لوطن كبير وعظيم فقط، ولكن ثمة ما هو خطير ومُهم في حياة الرجل!
مجال فتح عليه مدافع النقد، الذي كثيرًا منها ما تجاوز حدود اللياقة والأدب وفقدان أي قدر من الموضوعية، والقليل منها ما كان موضوعيًا ويستحق عظيم الاحترام.
عن هذا الجانب المُثير للجدل، والذي يُماثل في خطورته ما ترك الدكتور رفعت على صعيد الفكر والتاريخ، ما يستوجب التوقف عنده بالبحث والدراسة، والتّخّلي عن الانحيازات غير الموضوعية سواء حُبًا في الرجل، أو كُرهًا له.
فمسيرة الدكتور رفعت كّمُفكر ومؤرخ، هي موضع لكل اهتمام بل وإعجاب، خِلافًا لإسهاماته السياسية، ومواقفه الحزبية، فقد رأىّ البعض أنها وصلت إلى غاية الكمال والنجاح، فيما رآها البعض أنها أضعفت من مواقف اليسار وأجهضت طموحاته الكبيرة!.
الرؤية الموضوعية تقول بغير ذلك، فلا هو بلغ غاية المُنى في عطائه السياسي والحزبي، ولا هو الرجل الذي تحطمت على يديه أحلام وطموحات اليسار المصري!
رفعت السعيد كان جزءًا من حركة اليسار المصري المعاصرة، يّقوى بقوتها، ويّضعُف بضعفها وانحسارها. 
وعلينا أن نُعيد القراءة الموضوعية لمسيرة هذا التيار الأهم والأرقى في الحركة الوطنية المصرية، وأعني به اليسار الوطني المصري، وتحديدًا فصيليه الرئيسيين "الناصري والماركسي" منذ تأسيس الأحزاب السياسية المصرية المعاصرة في ربيع عام ١٩٧٦ وحتى الآن. 
بتلك الرؤية تستقيم النظرة الموضوعية، وتنهض الأحكام التاريخية عَلى أسس علمية، فالحُكم هنا يتوقف عند تقييم شامل ودقيق لحركة كبيرة، ولا يتوقف عند جهد فرد، مهما كان كبيرًا!.
رحمك الله يا صديق العمر