الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

رفعت السعيد يعيش فينا

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

تمر، اليوم، الذكرى الرابعة لرحيل د. رفعت السعيد، وصورته في القلب وآخر ما تبقى على جدار العمر.
حين نظرت إلى صورته المعلقة على الحائط، فرأيته في القرب والبعد جميلًا، بكيت قليلًا فارتحت قليلًا، رحل كالأشجار واقفًا، كما عاش واقفًا، ستون عاما من النضال الوطني والتقدمى، سنديانة حمراء لا تلين ولا تنحني،عشرات الكتب لم ينس فيها الجميع، نقش الحزب على جبينه والطبقة على كفه، والوطن في العينين، كان أبى. منذ عام ١٩٧٥ عرفته فعرفت نفسى ووطنى وقضيتى وحزبى، لم يعرف في النضال من أجل مدنية الدولة أى مساومة.
لا أنسى ذلك اليوم، كان الجسد يهبط إلى مثواه الأخير، ودموعى تسبق ذكرياتى، وروحه ترفرف، تعطينا التكليف الأخير بمواصلة النضال، وجوه كثيرة، لرفاق أضناهم الفراق، وأنا أتذكر ذلك الذى تبناني منذ ١٩٧٤ حتى قبل الرحيل بأيام.
من لم يعرف رفعت السعيد الإنسان لن يعرف د. رفعت السعيد الأكاديمى أو القائد السياسى، كنت شابا من أبناء حركة الطلاب لجيل السبعينيات، خرجت من السجن مفصولًا من الجامعة، أعمل «قبانى» في شركة النيل للحليج بالمنيا، أتكسب رزقى حتى لا أكون عالة على عائلتى، وأيضا أكون قريبا من العمال، في مساء يوم من مارس ١٩٧٤ كنت أجلس مع عمى أحمد عبدالعزيز، شيوعى سابق وصاحب محل نسيج، وطلب منى أن آخذ إجازة في الغد، لأن الأستاذ زكى مراد المحامى قائد شيوعى سيكون غدا في المنيا، انتظرنا زكى مراد وكانت مقابلته «شروق» شمس جديدة في حياتى، عرفنى زكى مراد على رفعت السعيد، تقابلنا في كافتيريا «لا باس» المغلقة الآن بشارع قصر النيل، شاب نحيف يرتدى نظارة، مبتسم دائما، ومن ابتسامته دخلت عالم الحركة الماركسية، ساعدنى على تأجير غرفة، وتم تعيينى معه في المجلس المصرى للسلام مع الزعيم خالد محيى الدين بمبلغ وقدره عشرون جنيها، كان حينذاك متزوجًا من الراحلة الرفيقة ليلى الشال، وانتقل لتوه من غرفة فوق سطوح إحدى عمارات باب اللوق إلى شقة في شارع المنيل، وأنهى الماجستير ويستكمل رسالة الدكتوراه في الحركة الشيوعية، ويعمل صحفيًا في مجلة الطليعة القاهرية.
في مكتب خالد محيى مع الراحلين السكرتيرة نبوية والجندى عمى عراقى كنا نستقبل يوميا عشرات من الشيوعيين يحل رفعت السعيد مشكلاتهم عبر وساطة خالد محيى الدين، كان شهريًا يعطينى عدة أظرف بها مبالغ مالية لفقراء الرفاق، أو لأسرهم بعد رحيلهم، ويسعى جاهدا لإلحاق زوجاتهم بالعمل وأولادهم بالمدارس، بكل مشاعر الرفيق ابن صاحب «ورشة الخراطة»، كان رفعت فخورا بوالده وبارًا بأسرته ورفاقه. ومن ١٩٧٦، بدأ رفعت مع خالد محيى الدين الاستعداد لتأسيس منبر اليسار، ولعب رفعت دورا كبيرا في تحقيق اشتراط «عشرة أعضاء من اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكى أو أعضاء مجلس الشعب»، بعدما «ماطل» النائب كمال أحمد في التفاوض، واعتذر النائب أحمد طه قبل انتهاء الفترة بيومين، فأسرع رفعت إلى الراحل فاروق ثابت واستطاع الحصول على توقيع النائب الراحل قبارى عبدلله، وعن طريق القائد الشيوعى زكى مراد والنائب مختار جمعة، تم الحصول على توقيع عضو اللجنة المركزية فتحى محيى الدين أمين الاتحاد الاشتراكى بمحافظة أسوان آنذاك، ولولا ذلك ما رأى منبر اليسار النور، ومن ١٠ أبريل ١٩٧٦، وحتى نوفمبر ١٩٧٦، كان رفعت السعيد لا يتبوأ أى منصب قيادى سوى عضويته فيما سمى «لجنة المتابعة» التى شكلها خالد محيى الدين لإدارة العمل اليومى وانتقلنا أنا والراحلان نبوية وعراقى إلى العمل في الحزب.
ومضت الأعوام، وكنت حتى ذلك الوقت لم أكمل دراستى وأحب الراحلة مريم وديد فتكفل بزواجى منها وذهب معى إلى والدها لخطبتها، ووفر لى منحة دراسية لاستكمال دراستى بجامعة موسكو ١٩٧٨، لتبدأ مرحلة أخرى بالخارج كشفت عن وجه آخر لرفعت السعيد، كان صديقا مقربا من قادة عظام مثل حافظ الأسد وأبوعمار وجورج حبش ونايف حواتمة وأبو إياد وجورج حاوى ونقولا شاوى، وشعراء وقادة مثل محمود درويش ومعين بسيسو، وكان يصطحبنى معه في أغلب هذه اللقاءات، وأذكر للتاريخ أنه سواء في بيروت أو في دمشق كنت أحجز له في الفنادق على حسابه الخاص، وفى أحد اللقاءات مع أبوعمار وأبو إياد قالا إن ثقتهما فيه لا تنتهى حتى أنهما طلبا لقاءه في الأول من أكتوبر ١٩٧٣ وأخبراه أن حافظ الأسد أكد لهما أن مصر وسوريا سيدخلان حربا ضد إسرائيل بعد أيام، ولذلك لم أندهش من نعى تلك المنظمات له واعتباره من شهدائها وشهداء فلسطين، كان يعامل كل هؤلاء على أنه يمثل مصر. 
كتب وقاوم الإخوان وأول من نحت مصطلح "المتأسلمين"، وتكحل بالعلمانية منذ صباه الأول في المنصورة، كنت لا أفارقه وكان عوضي عن كل شيء، تعلمت منه أن الضمير الوطني لاينفصل عن العلمانية، وأن الحرية الاجتماعية هى الطريق لحرية الأوطان من التبعية، وأن الديمقراطية حلم لا يتحقق سوي بالعرق والدموع والدماء.
كان الحوار الأخير قبل الرحيل بأسبوع حول "الشيوعيين المصريين المسيحيين والدين"، كان مبتسما ومن ابتسامته كان الحلم يطل في فرح، لم أدر أننى أودعه، كان يكتب مقاله الأخير حول مواجهة الإرهاب تبدأ فكرا، تحاورنا عن المنيا وعن التطرف هناك، نظرت لصورة خالد محيي الدين المجاورة لمكتبه، شعرت أن الحلم اليساري يتسرب كالماء من بين أصابعنا، تذكرت فرسانا سبقونا نحو الوطن السماوى، سمير فياض، كمال رفعت، لطفي واكد، فليب جلاب، شاهندة مقلد، زكي مراد، أحمد الرفاعي، عبدلله الزغبي، سيد عبدالراضي، عبدالرحمن خير، الشيخ عراقي، عريان نصيف، حسين عبد ربه، عبدالحميد الشيخ، فتحية سيد أحمد، فاطمة زكي، ليلي الشال، مريم وديد، أحمد نصار، ويا حزن قلبي، لكن هناك من يكملون الطريق وفي مقدمتهم أبناء حزبك وتلاميذك سيد عبدالعال رئيس الحزب، ومحمد سعيد أمين عام الحزب، وعبدالرحيم على من خلال البوابة نيوز في القاهرة ومركز دراسات الشرق الأوسط في باريس وكتابات تستكمل المسيرة نحو العلمانية وضد المشروع المتأسلم.
من يرفع عنى مر هذه الكأس، ماذا نكتب في يوميات الحزن المعتق عن مرثية العمر الجميل؟، فيا أيها الفارس الذى ترجل في صمت نحو الفجر السرمدى، سنظل على العهد حتى نلقاك ونكمل حديثا لم ينته من ١٩٧٥ وحتى الآن.