الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

رسالة إلى الرئيس ووزير الأوقاف!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

فى إحدى الحلقات الموجعة التى قدمها الإعلامي القدير أ/محمود سعد فى برنامجه الرائع "باب الخلق"، التقى بالشيخ/محمود عاطف بائع العرقسوس المتجول، الذى يحمل قدرته وقدره المحمل بهموم الأيام.. يحمل حمولته التى تزيد عن ال55 كيلو من 9 صباحا حتى آذان المغرب، وتكون حصيلة اليوم من 50 ل 60 جنيه!..هذا البائع هو نفسه خطيب بالمكافأة فى وزارة الأوقاف، ويحمل ليسانس شريعة وقانون!..رجل بشوش رغم  ملامحه التى تحمل  شقاء الزمن، فعمره 40 عاما ولكن مشقة الحياة وقسوتها حفرت بصماتها على وجهه المكافح..امتهن بيع العرقسوس وهو فى الإعدادية، فقد كان ينتمى لأسرة فقيرة مكونة من ثمانية أفراد، ووالده فلاح بسيط.. فكان يعمل فى فترة الصيف وأوقات الفراغ،  كى يساعد نفسه على استكمال الدراسة..أى أن عمله كان من أجل التعليم، وليس تعليمه من أجل العمل..فلم يكن يغيب عن الدراسة نهائيا حرصا على التعلم، حيث كان يظن أن العلم سيرفعه للسماء!..وقال عن سبب حرصه على التعلم:"أن التعليم هو المستقبل هو الحياة..إنسان بلا علم كشجر بلا ثمر ليس لها فائدة"..والتحق بالثانوية الأزهرية ثم بكلية الشريعة والقانون، وكان مجموعه مرتفعا يؤهله لأى كلية يريدها..وبعد تخرجه قدم فى وظائف عديدة دون جدوى، فلم يجد عمل سوى بيعه للعرقسوس، كى يعول أسرته، وخاصة أنه تزوج من ابنة عمه فور تخرجه، بعد أن فارق والده الدنيا وهو فى السنة النهائية فى الكلية، وكانت والدته أيضا قد توفيت وهو صغير..وأنجب الشيخ محمود أربعة أبناء، منهم ابنان كفيفان يعالجهم من قدرة العرقسوس!..وحين يأتي الشتاء لا يجدوا حتى ثمن لقمة العيش،  لأن الطلب على العرقسوس  لا يكون إلا فى الصيف فقط!.. ورغم مرارة قصة هذا الرجل المكافح، إلا أن  الأكثر مرارة هو ما تعرض له أثناء الحلقة!..والذى لا شك أنه يقابل أضعافه بعيدا عن الكاميرات!..فقد تفاجأنا فى الحلقة بأحد الأشخاص يقاطع التصوير ويطالبهم بإيقافه!..لأن إمام مسجد السيدة عائشة -الذى يقفون بجواره- يرى أن الشيخ محمود بعمله كبائع عرقسوس يقلل من شأن الأزهر!..ووقف يهدده ويتوعده أمام الناس بتصعيد المشكلة وتقديم شكوى ضده فى وزارة الأوقاف، كى يمنعوه من العمل كخطيب!..رغم أنه فى الأساس ليس معينا، وإنما يعمل بالمكافأة، فيقدم خطبة الجمعة نظير 40 جنيه) وهو بالتأكيد ما لايمكن أن يكفي فردا واحدا لعدة أيام وليس أسرة!..ونجح بالفعل إمام المسجد من إيقاف التصوير مؤقتا، ومنعهم من التصوير بالقرب من المسجد!..إلا أنه بعد عودة التصوير مجددا تبدلت ملامح الشيخ/محمود، وبدى الغضب على ملامحه، وتحول أسلوبه في الحوار..فتغيرت نبرة صوته الهادئة المتسامحة، ليحل محلها غضب وسخط يعكس مدى قهره وإحساسه بالهوان!..ليس بسبب عدم حصوله على العمل الذى يستحقه، ولكن بسبب التعالي والإهانات التى تلحق به ممن هم أقل منه علما وتأهيلا!..وبصوت غضوب طلب أن يتحدث على راحته بعد أن أُهين..وحكى أنه قدم مرات عديدة فى وزارة الاوقاف ولم يقبلوه، وبعدها  حاول وألح فى المحاولة للعمل كخادم مسجد، لكنهم رفضوه لأنه من حاملي المؤهلات العليا!..وقال:"خريج الإعدادية يقبل مباشرة كعامل فى أي مسجد ويصبح موظفا فى وزارة الأوقاف  وله مصدر رزق ثابت، أما ذوى المؤهلات العليا مثله فلا يجدوا سوى العمل كبائع متجول في الشارع"!..وتساءل الرجل:"هل كان المفترض أن أعلق شهادتى على الحائط وأظل منتظرا للوظيفة!.. أتسول أم أعمل?!..ألم يقل الرسول ﷺ: لأَنْ يحتَطِبَ أَحَدُكُم حُزمَةً عَلَى ظَهرِه، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسأَل أَحَدًا، فَيُعطيَه أَو يمنَعَهُ"..وخاطب بغضب من رفضوا عمله كعامل في المسجد:" إنسى إني حاصل على ليسانس، أليس لي حق فى توفير معيشة كريمة?!.وحلف بالله أنه لو كان يعرف أن العلم الذى تخيل أنه كل شيء، سيجعله  يعمل نفس مهنته كبائع عرقوس ما كان  فتح كتاب!.. أحزنني كلامه وغضبته، التى أشعرتنى  بمعنى قهر الرجال الذي استعاذ منه الرسول..وتعجبت من رد فعل إمام المسجد والذى بدلا من ان يشعر بمعاناة زميله ويحزن لحاله، ويحاول مساعدته، ويحمد الله على نعمة وظيفته التى حرم منها من هو حاصل على نفس التأهيل، أو ربما أعلى!..خرج يهدده ويوبخه باعتباره كما يرى يسئ لمهنة الخطابة فى المسجد!..ذهلت من قسوة القلوب التى لا ترحم، وبكيت حال الرجل المكافح العفيف الذى لم يستسلم لقسوة الظروف أو لقهر الرجال..فما أقسى من الشعور بالعجز، حين تبذل كل ما فى وسعك من جهد ونجاح وتفوق، دون أن تحقق شيئا!..وما أقصى من أن تتقلص الاحلام وتتوارى، وينكمش الطموح ويتضاءل حتى يتلاشى، ويصبح أدنى درجات العيش الكريم هو منتهى الأمل..وحزنت أكثر لغياب المعايير أو تكافؤ الفرص،  حيث أصبحت الفهلوة والحظ والصدفة هى المعيار الوحيد فى الغالب!..فالنجاح ليس شرطا، ولا التفوق شرطا!..وهو ما يتطلب معالجة حقيقية من أولى الأمر، قبل أن نحصد مزيدا من الخسائر بفعل الإحباط ووأد الأمل!