الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

حكايات جدتي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

كانت ليلة ممطرة قد انقطع فيها التيار الكهربائي عن القرية المتواضعة، حتى إن المياه تجمعت في شوارعها غير المرصوفة، ناهيك عن أصوات الرعد والبرق المرعبة في فضاء السماء. 
وأصوات الأشجار المتشابكة تحركها الرياح بسرعات متوالية مع نباح الكلاب، وكأنها ترى ما لا تراه العينان.
مع صوت أقدام ترتطم بالمياه والوحل، لشبح يشق عباب الظلام،كان يمشى هناك فى نهاية الطريق..
وسط هذا الجو المرعب والملبد بالغيوم والأعاصير، كان يمشى وحده عندما سمع صوتًا يرتجف، ويئن، ويهمس، فى تأوهات مرعبة، فتوقف عن سيره مبهوتًا وهو يتابع مصدر الصوت.
وتقدم ببطئ شديد، بينما تغيب الملامح هنا فى ضباب هذا الليل حالك الظلام.
كانت عجوز تجلس القرفصاء على حجر كبير، وقد ضمت ركبتيها، وشدت أطراف جلبابها القديم المتهالك تحت قدميها، بعدما غاصت أطراف ثوبها في المياه.
كانت تطوي ذراعيها على صدرها، وتخبئ كفيها تحت إبطيها، من البرد القارص.
هنا استدعت ذاكرته حكايات جدته عن الجن والعفاريت، وعن "الجنية" التي تسكن بقرب حنفية السبيل، حيث كانت تجلس تمشط شعر بناتها الجنيات الصغيرات تحت صنبور المياه المتدفق بغزارة!
وكذا حديثها عن "النداهة" التي تخرج من بين البيوت متزينة، فتطرق بيديها على نوافذ البيوت فتفتك بضحاياها.... 
وحكاياتها عن خروج عفاريت القتلى من البشر من بين المقابر، يضربون بعصاياهم على صفيح بأيديهم بأصوات مرعبة!
لحظات من الوقت مضت وكأنها ساعات، وما بين قدم تتقدم وأخرى تتراجع إلى الوراء نعم إنه الصراع بين الخوف والثبات..
حتى انتصرت شجاعتة على الخوف، فاقترب منها سائلا لها عما أجلسها في هذا المكان الموحش، ناسيا هويتها (جنية كانت أم إنسية).
صوتها المكلوم كان يشير إلى أنها تريد أن تتحدث إلى من يسمعها، ويسير إلى جوارها، فتسند كتفها عليه، بعدما جار عليها الزمن، وأخذ منها وحط!
ظن ذلك منها، ولكن في الحقيقة كان هو من يستند عليها، بعد أن أخذته من طريق آخر غير الطريق الموحل، وكأن الظلام قد انقشع، وما هي إلا لحظات حتى صفت السماء متوقفة عن رعدها؛ فظهرت نجومها لامعة، وكأن القمر في فضاها قد عاد بثغريه متبسما.
فما إن شخص إلى القمر مناجيا فكاد أن يخاطبه حتى أيقظته مآذن القرية صادحة بمولد فجر جديد!
استيقظ من نومه ولم تعد تخيفه أحاديث جدته كما كان الحال في الماضي.
نعم استيقظ والأسئلة تلاحقه:
لماذا حديث الليل أكثر صراحة ووضوحا؟
هل لكونه هو الساتر بظلامه كل عيب؟
أم لأنه الهدوء الذي يعطينا حرية التعبير؟
أم الحقيقة المؤكدة التي تكشف لنا حقيقتنا المجردة من الزيف والأكاذيب؟
أم هو صورنا المستترة عن الغير بكثير من التفاسير؟
استيقظ ولم يعد ظلام الليل يخيفه.
فلم يعد يرهب فيه أحاديث الغير المجردة عن الحقيقة  ..
فربما يأتي اليوم الذي يحن فيه إلى هدأة الليل الطويل،فيسافر فيه عبر رحب السماء القاتمة،وحيدا يسامر القمر.