أحيانًا أتخيل نفسي كائنًا كوكبيًا يسكن كوكبًا بعيدًا.. يتسكع في الفضاء بمركبته الفضائية الشمسية الطاقة.. وأثناء تجاوزي للسرعة القانونية كوكبيًا -المحددة ب 2 مليون سنة ضوئية- مررت بكوكب ملون رطب جدًا.. حوله جسيمات محترقة بفعل الأكسجين في غلافه الجوي.. لكن هذا الكوكب لديه ما ليس لدي أي كوكب وهو ما سيجعلني أعود له مجددًا عبر مجموعة الثقوب الزمنية السوداء مهما كثرت.. فوسط الضجيج والصراخ والتلوث السمعي الذي تجاوز ألف ديسيبل ظهرت موجات صوتية منتظمة.. ظهرت الموسيقى.
أتخيل أن أي زائر كوكبي يمر بكوكبنا يفعل ذلك ويعود بشكل عشوائي لكننا لا نراه لسبب وحيد: أن عشاق الموسيقى حضاريون منظمون يصعب أن يحدثوا خللًا يمكن رصده في الحركة الكونية حولنا.. وأشعر أن الموسيقى تلائم كوكب الأرض والإنسان جدا.. لدرجة قد تجعلك متأكدًا أنك لن تجدها على كوكب آخر.. كما أنني لطالما آمنت أن أصلح الأشخاص لحل مشكلة هو من فعلها أو تسبب فيها.. والبشر تسببوا بالتلوث السمعي لذا هم الأقدر على تقديم سمعيات راقية هي الموسيقى.. وأصدق تمامًا ما شعر به مخرج فيلم (Mars Attack) حين تخلص من كوكبيو المريخ من أعداء السلام بالموسيقى، وكأنه يقدم أجمل ما قدم البشر للسلام.
الموسيقى تلك المخلوقة اللاملموسة التي يمكنها أن تحطم النوافذ وتحدث زلازل بسيطة بفعل قدرتها على الانتقال من مكان لآخر عبر الأجسام المحيطة بها كلها.. الموسيقى كما تنتقل عبر أجسادنا تترك بصمتها عليها ومن هنا جاء العلاج بالموسيقى.. وأبرز ملامحه الصورة القديمة الكلاسيكية للطبيب النفسي وهو يستمع للمريض وسط موسيقى كلاسيكية هادئة.. ولكن الأمر تجاوز ذلك وصارت تلك الموجات الراقية تخترق الأحياء مؤثرة على هرموناتها وأعصابها على نحو كلما اكتشفناه نجده أكثر إثارة.. فهناك موسيقى تساعد على النوم وأخرى تشعرك بالشبع وتستخدم في الحميات الغذائية وثالثة تستخدم كفاتح شهية تستخدمها بعض المطاعم العالمية الآن.. لكن الشيء الغريب فعلًا أن الموسيقى تؤثر في الأحياء حد أن تعرض مجموعات من الدواجن والأبقار لنوع معين من الموسيقى زاد من إنتاجها اليومي من البيض والحليب.
والأمر ليس غريبًا.. فالموسيقى تنتقل عبر كل الأجسام المحيطة بها.. والاستجابات الخاصة بها تتنوع من شخص لآخر لكنها تصب في اتجاه موحد يتناسب مع نوع الموسيقى المسموعة.. بمعنى أن موسيقى الفرح لن تحزن أحدا ما لم تستدعِ لديه ذكريات من نوع ما تتنافس مع موجات الموسيقى.. فمن حقك كبشري أن تفخر بأن هناك سلاح جاهز أنت من يعيد اختراعه كل يوم ويمكن به أن تقضي على الضوضاء حين تجيد إنتاجه، فليس كل استخدام لآلة موسيقية موسيقى.. الضوضاء ليست موسيقى مهما حاولت نشرها ومهما تمايلت عليها أجساد.. الموسيقى رقي البشر.
إن الشعوب السعيدة هي التي تغني أغنيات بها طاقات سعيدة القوة. لا أغنيات تساعدها على أن تخرج من واقعها بعنف أو ابتذال. أغنيات يمكنها أن تحمل الإحساس حتى لو كان مقهورًا إلا أنه يحمل إيجابية سعيدة بحب شيء ما أو مكان ما. إن هذه القوة السعيدة البيضاء أو الداكنة أحيانًا في ظل الأحداث المزعجة هي التي حملت إلينا موسيقى قديمة. ولا يمكن أن ننسى كمصريين أن الصراخ "الصويت" ما هو إلا نوع من الغناء الجنائزي كانوا يودعون به الموتى.
