الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

مفكرون خالدون| أمين الخولي.. رائد مدرسة التفسير الأدبي للقرآن

أمين الخولي
أمين الخولي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
"أول التجديد قتل القديم فهمًا وبحثًا ودراسةً"، "أما إذا مضى المجدد برغبة في التجديد مبهمة، يهدم ويحطم ويشمئز ويتهكم فذلكم، وقيتم شره، تبديد لا تجديد." هكذا كان الخولي يبث أصول» التجديد في كل المجالات المتصلة بإسهامه: التجديد في اللغة ونحوها، في البلاغة وجمالياتها، في الأدب ونقده، في تفسير القرآن، وفي الفكر الديني... وحتى حين تعرض الترجمة إمام من عصر التدوين، لن يحمل خطوطا تجديدية بل فقط أصول السلفية، هو الإمام مالك بن أنس (۹۰-۱۷۹ھ/۷۰۸-۷۹۵م)، حتى في هذا أعطى الخولي درسا تجديدا في أصول تحرير التراجم و«ثارت بينه وبين العقاد معركة أدبية شهيرة حول كتابة التراجم.»؛ لذلك قيل عن الخولي - بحق – أنه في كل إسهاماته قد «حرر عقله من سلطان التقليد الذي يبطل الإرادة الحرة، ويميت روح الإبداع، ويشل حركة العقل، فبعدت مطارح أفكاره، وسما في نظر طلابه، ودأب على سموه في كل يوم في النفوس والعقول ما.»
لقد تأتت إسهامات الخولي - جهوده الأصولية التجديدية في مجالات تجعلها بنية حضارتنا في موقع ثقافي محوري، فضلا عن ارتكازها على الثابت البنيوي فيها - النص الديني / القرآن الكريم، فلم يكن للتجديد في هذه المجالات - عند الخولي - إلا طريق واحد هو النظر العلمي الذي لا يستقیم بغير الفهم العميق للقرآن الكريم، بل وجاهر الخولي بأن هذا الفهم ليس سهلا لمن لا يتذوقون العربية، ومهما فعل المستشرقون، ومهما بذلوا من جهود رصينة، لن يستطيعوا النفاذ إلى جوهر القرآن، بعبارة أخرى هذا التجديد مهمة منوطة بنا وحدنا، واجب علينا وحق لنا.
وكانت جهود الخولي في منهجية التجديد عميقة الأصول ومترامية الحدود، وغزيرة المضمون، ومتعددة العناصر. لكننا نلتقط منها خيطا بدا لنا مفتاحا يفض مغاليق، مما يلقي ضوءا كثيفا على أهمية ميراث الخولي.
ذلك أن هاجس الحياة والارتباط بالواقع الحضاري الحي كان مهيمنا على فكر الخولي، حتى قيل إن الحياة والحيوية أكثر الكلمات شيوعا في كتاباته وأحاديثه؛ لذلك كان من السهل أن يبلغ التجديد الديني معه مقولة «التطور» ذاتها؛ ليكون طبيعيا متأصلا سائرا نحو الأصلح والأكمل والأكثر بقاء.
وكما هو معروف فإن نظرية التطور، مجرد نظرية بيولوجية؛ أي محاولة لوصف وتفسير نشوء ظاهرة الحياة على سطح، وارتقائها عن طريق الانتخاب الطبيعي - حتى بلوغها الشكل الراهن. وعلى الرغم من أنها من الوجهة العلمية البيولوجية تحوي ثغرات ومواطن قصور جمة، كما أوضح كثيرون، من أكفئهم فيلسوف العلم البارز کارل بوبر فإنها – بتعبير بوبر نفسه - برنامج بحث ميتافيزيقي ممتاز، وحتى هذه اللحظة لا يوجد بديل لها، وأبدت خصوبة وفعالية فرضتا التسليم بها كنظرية عامة لسائر علوم الحياة، فضلا عن خصوبتها في مجالات أخرى عديدة، تتجاوز كثيرا ظاهرة الحياة، كما سنرى مع أمين الخولي لا سواه.
فيقدم الخولي لطلابه عرضا جيدا لنظرية التطور مع إمامها تشارلز دارون مع الإشارة إلى الرواد الآخرين لامارك، وألفرد والاس وببيانه المحكم البديع، يوضح الخولي كيفية تفسيرها للحياة، فأنواع الأحياء - وعلى رأسها الإنسان - لم تظهر هكذا منذ خلقت، بل هي دائمة التغير من حال إلى حال، وبهذا تتطور من البساطة إلى التركيب المتدرج بالتغير والتطور تنشأ بعض الأنواع عن بعض، وترتقي بعمل ناموس الانتخاب الطبيعي - بقاء الأصلح للحياة وانقراض ما عداه. ويتهكم الخولي من رد النظرية إلى القول الدارج: إن الإنسان أصله قرد! ولا يفوته تعداد مواطن القصور المعروفة فيها.
ويبين الخولي أصول نظرية التطور في الفكر البشري، عند الإغريق ثم عند الإسلاميين، خصوصا مع جماعة «إخوان الصفاء وخلان الوفاء»، ومع ابن سينا، وابن طفيل، والقزويني، وابن خلدون.
وهنا يتوقف الخولي لتبيان أن نظرية التطور الحديثة في صلبها لا تتناقض مع العقيدة الدينية ولا تتعارض مع الإسلام، والقرآن هدى للمتقين لا درسا في الفيزياء والكيمياء والأحياء، والإسلام في أصوله وفروعه يحث على عمل العقل، ويستحيل أن يصادر على نظرية أو تفسير علمي ما. أما مقاومة نظرية التطور والنزاع الشهير بشأنها في أوروبا وأمريكا، فهذا – كما يؤكد الخولي - لا يخصنا؛ لأنه تناقض بينها وبين نصوص في التوراة.
وقد أرسى بناءه المنهجي التجديدي على ما أسماه "التفسير البياني للقرآن"، كان محور هذا الضرب من التفسير هو إظهار الإعجاز البلاغي للقرآن، لكنّ الخولي يرى أنّ ما ألّف في هذا الغرض من التفاسير السابقة ينطلق في معالجته للنص من منطلق دعوي وتراثي، لذلك كانت الجهود مسخّرة لغايات دفاعيّة عن الإسلام، ولم تكن العناية بالجانب البياني اللغوي غاية في حدّ ذاتها. ويتحدد مدخل التجديد عند الخولي والمدرسة الحديثة كلها في وظيفة المفسّر أوّلًا، وفي مكانة النصّ المفسّر ثانيًا، فليس مقبولًا عند الخولي أن يظلّ التفسير المعاصر مجرّد أداة لاختيارات مذهبيّة وتوظيفات دعويّة مهما كانت أهمّيتها.