الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

في يوم ميلاده.. عبدالرحيم علي يكتب: أوراق من دفتر العمر

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

هو العمر يمضي إذن، ولا أبصر سوى وجوه الراحلين والرفاق القُدامى.. أرصفة مدينتي البعيدة.. أزقة قريتي، والمدرسة الابتدائية.. تلك الفتاة الشقراء التي من أجلها سكبت على شعري ماء الأكسجين طفلًا وعنَّفَني أبي.


ثمانية وخمسون عامًا ألهث خلف دمي.. يمامة خضراء تأتيني على مهل.. شاخصة وحالمة في وضح النهار.. تربت على كتفي، تهدهدني وتهديني اليقين.. طريق ضم أقدامي نصف قرن أو يزيد.. يراوغني.. يُعلِّمني الرحيل.

واليوم أشُدُّ الرِّحال خلفه.. علِّي أجد ضالتي، في الحب والثورة والحياة؛ ذلك الثالوث المقدس الذي ظل يطاردني عشرات السنين، ولم يزل، لم أسْلَمْ منه يومًا.. لا في الصحو ولا في المنام.

أُولِّي وجهي شطْر مدينة النور، أحاول فيما تبقَّى من عُمر أن أتلمس فيها ما لم ألحظه شابًّا عندما كنت أزورها وحيدًا في ليالي الشتاء، أسير في شوارعها.. تتلقفني عيون المارَّة وحوانيت الشانزليزيه .. مقاهي سان ميشيل، وعازفو الموسيقى في محطات المترو .. ولا أرى أحدًا سواك.. لا الوجوه ولا المرايا.. لا النبيذ ولا الكنائس، لا شيء غيرك كان يسكنني في الحضور وفي الغياب.

هذه المرة أرحل شاهرًا حلمي.. صرخة رجل يُولد من جديد، تركت خلفي ما يمكن أن يختلف عليه البعض، لكنني راضٍ به وقانع، أُقدِّمه على مذبح العشق، قلادة حب إليك.. أترك دياري، مختارًا محبًّا، عاشقًا أبحث عن ضالَّتي.

فها أنا ذا أخطو بخُطًى ثابتة نحو الستين، ربما لا ألحق هذا القطار السريع، وربما أستطيع أن أحجز فيه مقعدًا وثيرًا في الدرجة الأولى.. وأرسم خطاك على جبين العاشقين.


على ضفاف "السين" أتذكر بلدتي البعيدة في صعيد مصر وأبكي، لكنني أسمع صوت أبي يطاردني بجملته الأثيرة "الرجال لا يبكون".. كان ذلك من بعيد.

هل كنت كبيرًا كفاية ليُحمِّلني أبي، آنذاك، وصيته الوحيدة.. أم تلك كانت أسطورته التي ظلت تطاردني حتى الآن؟!

في ميدان الكونكورد حيث المسلة الفرعونية العتيقة وفندق لوكريون الشهير، والجناح الشرقي لقصر الإليزيه.. أتذكر تلك المرأة الشاحبة الأنيقة.. قالت لي ذات يوم: إن جدي لقَّنها درسًا بالعصا على ظهْرها عندما أمسك بها تُغني "على بلد المحبوب ودِّيني.." ورمت نفسها بين أحضاني وبكت.. كنت أشبهها إلى حد كبير، وكان يحلُو لي تذكيرها بتلك اللحظة مرارًا ثم نضحك.. بعيدة هي الآن وعليلة، لكنها تسكن قلبي كما سكنت أنا روحها ورحمها قبل ثمانية وخمسين عامًا في تلك القرية البعيدة في صعيد مصر المسماة "تل حمدي".

لم أكن من الذين وُلِدوا، وفي فمهم ملعقة من ذهب، كنا أبناء الفقراء نُدعى، حملنا هموم جيلنا وهموم الفقراء والمهمَّشين، وقبل كل هؤلاء هموم الوطن، حملناها في قلوبنا وعقولنا، وحلمنا بغدٍ أفضل، حتى وهَن العظم واشتعل الرأس شيبًا.


كنت واحدًا من كثيرين جذبتنا موجة اليسار مبكرًا، إلى حيث بحر المعرفة والأدب والثقافة، تعرفنا منذ نعومة أظافرنا على تاريخ مصر الحديث، من خلال الجبرتي، وعبد الرحمن الرافعي، وطارق البشري، وعبد العظيم رمضان، والعم صلاح عيسى، وكبيرنا الذي علمنا السحر.. رفعت السعيد.


حفظنا ووعينا، عن ظهر قلب، أشعار فؤاد حداد، وصلاح جاهين، وأحمد عبد المعطي حجازي، وأمل دنقل، ومحمود درويش، وعبد الرحمن الأبنودي، وأحمد فؤاد نجم، وقرأنا قصص يحيى الطاهر عبد الله، وعبد الرحمن منيف، وحنا مينا، ورشيد بوجدرا، وحيدر حيدر، والطيب صالح، والطاهر وطار.


وقبل كل هؤلاء كانت معرفتنا وثيقة بشيخ الرواية العربية نجيب محفوظ، والعبقري يوسف إدريس. خلطنا مبكرًا التاريخ بالأدب، والشعر بالقصة، والغناء بالموسيقى، والسينما بالمسرح، كنا نشتري الكتاب جماعة، ونقرؤه فُرادى، واجهنا مبكرًا جماعات العنف الديني في عُقْر دارها في صعيد مصر، وغنَّيْنا مع محمد منير "لو بطَّلْنا نحلم نموت".

عشنا مع أسامة أنور عكاشة ملحمة ليالي الحلمية، وأرابيسك، ولم نرفع أبدًا الراية البيضاء.. وشاهدنا مع جلال عبد القوي خيارات الأخوة في "المال والبنون"، وعرفنا من علي الحجار "أن الشيطان ما يقدر على اللي خيره لغيره" فأحببنا الانتماء للفقراء والمهمشين، وغنَّينا لهم ومعهم أغاني الحب والثورة والحياة.. وتنبأنا معهم بخطر جماعات الإسلام السياسي قبل الجميع، في الوقت الذي بشَّر بمشروعها البعض، دون وعي أو معرفة.


أُدين لمدرسة اليسار بالكثير، وبخاصة هؤلاء الذين احترموا تقاليد وعادات وثقافة المصريين والعرب، احترموا أننا أبناء تلك الحضارة العربية التي جمعت بين مسلمي ومسيحيي الشرق وصهرتهم في بوتقة واحدة، هؤلاء الذين لم يجدوا غضاضة في أن يصلوا الفجر بسورة ياسين، أو يذهبوا إلى الكنيسة في أيام الآحاد، ويقرءوا ما تيسر من الإنجيل، ثم يعودوا إلى منازلهم فيفتحوا كتاب رأس المال ليقرءوا فصلًا منه، ليشكلوا وعيًا جديدًا بحضارة منفتحة على الآخر، لم يتمترسوا خلف الأممية الثالثة التي اصطنعها ستالين ليكرس ديكتاتوريته، وإنما انفتحوا على ليون تروتسكى، والاشتراكية الأوروبية، انفتحوا على الفكر الليبرالي، أخذوا من كل تلك التجارب بقدر، عرفوا دور الأدب والفن، في نضال وكفاح الشعوب، فانخرطوا في كل تجرِبة تمجِّد من قيمة الإنسان، أي إنسان، ودافعوا عن قيمة حرية الفكر والإبداع، نهلوا من عظمة كازنتزاكس، وكافكا، وبابلو نيرودا، والعبقري فيكتور هيجو.

احترموا قيمة التفرد والابتكار، فكانوا بحق رُوَّادًا لجيل مختلف، جيل أكاد أقول، دون سفسطة أو تعالٍ، إنه صنع نفسه بنفسه، لم يكن له أساتذة بالمعنى التقليدي للكلمة، ولكنه كان منفتحًا على كل التجارب فخرج صلبًا قويًّا، يعي قيمة ذاته ووطنه؛ لذا استطاع الصمود، دون ضجيج، في وجه تتار العصر الجديد، جماعات العنف الديني، وفي القلب منهم جماعة الإخوان.

ولدت بصعيد مصر في مدينة المنيا، في ٢٥ مارس ١٩٦٣، عشت بين أهلها الطيبين، لعبت في شوارعها، وعلى كورنيشها المتميز قضيت أحلى سنوات العمر، طفلًا وشابًّا.

وفي رحاب مكتبات قصر الثقافة، ومجلس المدينة ، قضيت أجمل الساعات مع الكتب والأفكار، حيث تشكل وعيي ووجداني المعرفي والسياسي والأدبي، تشاركت مع أصدقاء العمر عادل الضوي، ومصطفى بيومي، وسليمان شفيق أحلامنا، الخاصة والعامة؛ الحلم بوطن أكثر عدلًا وتقدمًا، وقادتنا أحلامنا وأفكارنا وحماسنا الدافق لخوض تجارِب سياسية وإنسانية عديدة ونبيلة، ربما يأتي يوم لأقصها على مهل.


لكنني أتذكر الآن.. تلك الفتاة السمراء التي داومت لخمس سنوات أو يزيد على صنع الشاي وإعداد الطعام لنا بينما نحن منغمسون في محاولاتنا لتغيير العالم.

قابلتها في صباي، ثم سرعان ما أصبحت أيقونة عائلتي الصغيرة، فيما بعد، كانت ولم تزل السَّنَد والظهر.. صديقتي في الرحلة الطويلة والمرأة التي أُدير لها ظهري وأنا مطمئن.. "أم خالد"؛ ذلك الصبي الذي نما في قلبي قبل أن يكبر أمام عيني فكان أخي وابني. "عكاز أبيه" الذي سأتكئ عليه في زمن ما.. تلك كانت مقولة أمي عندما تراه.. أتذكرها الآن وأبتسم.

أتذكر الآن غادة.. "بنت أبيها" وهي تورق في ربيعها الأول، كان ذلك في العام ١٩٨٤، كانت كبيرة الحجم، إلى الحد الذي صاح بي ذلك الصديق الأسمر البشرة مندهشًا: "أنا لا أصدق أن هذه الطفلة وُلدت اليوم".. كانت براءته كافية لكي أعوم على بحر من الفرح.. "محمد" لم يكن صديقي كان أخي الذي لم تلده أمي، ولكنني رحلت ولم أعره انتباهًا فيما بعد، كان تواصلنا نادرًا.. هل لي في اعتذار إليه الآن، علَّه يرضى.

وحين مررتُ بتجرِبة الهجرة الأولى إلى موسكو كانت أيقونة أخرى تغزو قلبي فتقهرني بطيبة أمي التي توارثتها.. ورثت أيضًا لون عينيها، عودها، ولفة جسمها.. لكن الاسم مختلف؛ الأم اسمها شوكت والابنة كانت داليا.. بين الأم والابنة لا يوجد فوارق كثيرة فصارت داليا "أم أبيها".

وبين "أم أبيها" و"قلب أبيها" أربع سنوات أو يزيد، لم أُصدِّق نفسي حينما خرج المرحوم الدكتور وجيه شكري، ذلك الطبيب القبطي اليساري صديق عمري من غرفة العمليات حاملًا إياها؛ طفلة كبيرة الحجم ممتلئة الوجنتين زائدة في الوزن، صِحْتُ به: هل هذه شاهندة؟ قال: مَنْ شاهندة؟! قلت له: تلك الفتاة التي تحملها، فضحك قائلًا: لم أعد أحتمل حملها بعد فلتحملها أنت! ومضى..

بعدها بسنوات كنتُ على موعدٍ مع النور الذي سيُضيء حياتي، كنت قد استقبلت حفيدي الأول "يوسف"، ونسيت قصة الأطفال لكنها مرت كملاك على جراح العُمْر فطهرتها.

"نورهان"، تلك الفتاة الجميلة التي تحدثني دائمًا بلغة الإنجليز، وتضحك فيفرح فؤادي بضحكتها..

هل كان ذلك وجع الروح في الزمن البعيد؟! إذ لم أكن شاهدًا أبدًا.. كنت قاتلًا أو قتيلًا!

كنت أهرول خلف دمي.. كهلًا يسير بجثة صاحبه في ختام السباق، كان أيوب قد مات، وماتت العنقاء، لم يكن سوى يهوذا شاخصًا بعينيه نحوي.. وكان صاحبي ينتظر، قرب صياح الديك، لينكرني ثلاثًا.. فانصرفت.

هل كانت تلك هي الحقيقة أم أنها هواجس الخريف تأتيني عارية على ضفة السين حيث كنت وحدي، وكانت بلادي دليلي، وكان "يوسف" فوق المآذن يمسك طرف الهلال.. وينير سبيلي؟

أتساءل الآن: هل يرثه أخوه "يونس" أم أنه العمر قد يمضي ولا أبصر غير "علي" يوصد الأبواب خلفي ثم يرحل؟!