الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

سليمان شفيق يكتب: الوجه السياسي للست تحية كاريوكا

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لا أستطيع أن أنسى أبدا أول لقاء مع العظيمة تحية كاريوكا، وكان أغلب اليسار معتقلا بعد انتفاضة ١٩٧٧، وكنت قد خرجت للتو من السجن في نهاية فبراير، بعد أن تم الإفراج عنى، دعانى الزعيم خالد محيى الدين، في مكتبه وهمس في أذنى: «سوف أعطيك مكافأة، وأعطانى عنوان تحية كاريوكا، وقال: «اذهب إليها ستعطيك شيئا لنا»، ذهبت إليها ولم أستطع تمالك نفسى وقبلت يديها، تركتنى ودخلت ثم عادت حاملة ظرف أصفر مغلق، تعرفت عليا وسألتنى عن ليلى الشال زوجة رفعت السعيد، وأوصتنى عند زيارتها أن أنقل لها سلامها، وأخرجت أجندة تليفونات ودققت معى أرقام منازل بعض الرفاق، أتذكر منهم رفعت السعيد وزكى مراد ونبيل الهلالى.

في لقاء آخر ذهبت إليها مع الشاعر الراحل نجيب سرور وكان اللقاء في غرفتها بالمسرح، وأذكر حديثها معه في جوانب شخصية وسؤالها عن أولاده، وحينما هممنا بالمغادرة أوقفتنى وطلبت منى ورقة بها الأحوال الاجتماعية للرفاق، خاصة العمال الذين بالسجن، كنت وقتها في لجنة الحريات بالتجمع، والتى كانت تدافع عن حقوق السجناء، وبعد يومين كانت الورقة معها بعد موافقة خالد محيى الدين، وحينما التقت بى أعطتنى ورقة وقلم وكتبت أسماء الرفاق والمبالغ الخاصة بهم، وعدت وسلمت الظرف للأستاذ خالد.
ظللت على اتصال بها، وفى إحدى المرات طلبت منى إرسال رسالة لزكى مراد المحامى، وفى كل لقاء كانت تحكى لي عن علاقتها بالسياسة واليسار والحركة الشيوعية، وقبل زواجى ١٩٧٨ أخذتنى من منزلها وهى في طريقها للمسرح إلى محل «جورج» للملابس بشارع طلعت حرب وأهدتنى "بدلة" وأعطتنى «ظرف» طلبت منى أن أعطيه للدكتور رفعت السعيد، فتح «السعيد» الظرف مبتسما وقال: الست تحية أحرجت تعطيك مبلغ "نقطة الفرح" حتى لا تصرفها، أطلعنى على المبلغ وكان (٢٠٠) جنيه، وقال سوف أعطيها لخطيبتك مريم، ونادى عليها وأعطاها المبلغ، هذه هى أم اليسار تحية كاريوكا، التي حينما جاء المفكر اليسارى د. إدوارد سعيد إلى مصر لإلقاء محاضرة في الجامعة الأمريكية، ودعاه رفعت السعيد للغداء، طلب منى اصطحابه إلى منزل الست تحية، واصطحبته وكان سعيدا جدا، وكان يكتب وراءها ما تقوله وحينما غادرنا قال لي: «هذه السيدة أعظم من الفنانة الكبيرة البريطانية "فينسيا ريدجريف".. وبعدها كتب بالحياة اللندنية: «ما روته كان مفاجئًا بالنسبة لي، إذ علمت لأول مرة أنها كانت على الدوام منتمية لليسار الوطنى، حيث سجنها عبد الناصر في الخمسينيات لانتسابها لعصبة السلام المنظمة الموالية لموسكو». واختتم إدوارد سعيد مقاله بمغامرته في البحث عن تاريخ الفنانة في أرشيف السينما المصرية فلم يجد توثيقًا لمسيرتها أو حياتها فكتب قائلًا: «وجدت أن تحية هي تاريخها ذاته، تاريخ غير موثق إلى حد بعيد لكنه لا يزال مهيب الحضور.

ولايزال تاريخها اليسارى والوطنى لم يكتب منه بعد سوى بعض الذكريات وكتاب للكاتب سليمان الحكيم وكتاب آخر للناقد الكبير طارق الشناوى، ومقالات متناثرة في الصحف، ولكن تاريخها السياسى واليسارى لم يكتب بعد.
بدوية محمد النيدانى، سماها والدها بهذا الاسم تيمنا باسم الشيخ السيد البدوى، أحد أبطال المقاومة أثناء الحروب الصليبية، ولا ننسى ما توارثناه في التراث من الأغنية الشعبية: "الله الله يا بدوى جاب الأسرى" لنجاحه في تهريب الأسرى من معسكرات الصليبين، وهكذا ورثت النضال بدوية التي ولدت إبان ثورة ١٩١٩، وترعرعت في ظل نضال الشعب المصرى ضد الإنجليز، وقد أخبرتني أنها شاركت في مظاهرات ١٩٤٦ وكانت على علاقة بأحد أعضاء اللجنة من الطلبة، وكيف كانت عضوة في عدة حركات مثل: «أنصار السلام وعضو في تنظيم «حدتو»، ومن ١٩٤٦ وحتى عام ١٩٨٨ استمرت في أدوارها السياسية والتقدمية الحركية،كانت في أثينا مع مجموعة من الفنانين والمثقفين المصريين والعرب الذين عزموا على ركوب «سفينة العودة» في رحلة إياب إلى الأراضي المقدسة، وبعد أسبوعين فجرت المخابرات الإسرائيلية ذلك القارب وتم التخلى عن المشروع.

اكتشفتها الراقصة محاسن محمد، ثم انضمت إلى فرقة بديعة مصابني، قامت بتطوير أسلوب خاص بها جدد إنتاج الهرمونية الشرقية القديمة الخاصة بالرقص، وبناء على ذلك الأسلوب تم تأسيس مدرسة كاملة متخصصة في الرقص الشرقي في نفس الوقت مع مدرسة سامية جمال، التى مزجت بين الرقص الشرقى والغربى، وأطلقت عليها بديعة مصابنى اسم "تحية" لأنها كانت تحيى الجمهور قبل الرقص وبعده، أما "كاريوكا" فجاء بعد أن رقصت من ابتكار الإسبانى الشهير "ديكسون " من الفلكلور البرازيلى، وعرضت الرقصة بالفيلم الأمريكى "الطريق إلى ريو".
اعتزلت كاريوكا الرقص الشرقي لتتفرغ للتمثيل فشاركت في عدد كبير من الأفلام السينمائية الشهيرة منها:«لعبة الست، شباب امرأة، خلى بالك من زوزو، وداعًا بونابارت، إسكندرية كمان وكمان، مرسيدس» كما تألقت على خشبة المسرح، مع فرقة إسماعيل يس في بداية عملها المسرحى عام ١٩٥٤، قبل أن تؤسس فرقة مسرحية خاصة مع زوجها حينذاك فايز حلاوة ١٩٦١.

كما يقول د. رفعت السعيد المؤرخ اليسارى المعروف في حوار خاص: «بدأ النشاط السياسى التقدمى للفنانة تحية بعد أن انضمت لحركة «السلام» بعد انتصارات الاتحاد السوفيتى في ستالنجراد عام ١٩٤٢، وبعدها بسنين في ١٩٥٤ تزوجت من عضو في حركة التحرر الوطنى «حدتو»، وهو الضابط مصطفى كمال صدقى، وبعد زواجها بثلاثة شهور وجدت البوليس الحربي يكسر باب شقتها، وتم العثور على بعض منشورات الحركة، ومن تلك اللحظة عرفت تحية السجن لأول مرة في حياتها وقضت في السجن ١٠١ يوما، ويضيف: «استغلت فترة وجودها في السجن ودافعت عن حقوق السجناء والأوضاع الإنسانية المزرية في السجون، وطالبت إدارة السجن بوقف عمليات التعذيب ضد بعض السجينات، وتخفيف الخدمة الشاقة ضد آخريات، وأقامت نشاطًا لمحو الأمية في سجن النساء، وهاجمت نظام الضباط الأحرار من داخل السجن، ومن أشهر جملها من داخل المعتقل واصفة حكم الضباط الأحرار:«ذهب فاروق وجاء فواريق»، لذلك تم اعتقالها مع بعض أعضاء الحزب الشيوعى بعد أن قالت إن أداء نظام عبدالناصر لم يفرق شيئًا عن أداء فاروق. ويبتسم رفعت السعيد قائلا: «واتخذت لنفسها اسمًا حركيًا جديدًا داخل السجن، فأصبح اسمها «عباس» وكانت جريئة إلى حد كبير، وسبق أن قالت للملك فاروق وهو جالسا في كازينو الأوبرج بسخرية: «مكانك ليس هنا يا جلالة الملك بل على العرش في القصر»، وابتسم الملك في حرج وغادر المكان، ومعروف أيضا أنها في بداية مشوارها الفنى، عنفت الأمير حسن عكا، عضو الأسرة المالكة، و«سبته بأمه» بعد محاولته إمساك يدها بشكل غير لائق، كما ساعدت الفدائيين عام ١٩٤٨ واستخدمت مزرعة أختها مريم لتخزين السلاح، وكانت تنقل السلاح بنفسها في سيارتها الخاصة،.. ومن رفعت السعيد إلى ما نشرته عنها الصحف من أنها نشرت وأخفت السادات وأنقذته من الإعدام بعد قتله وزير المالية في ذلك الوقت، أمين عثمان، حيث أخفته فترة في منزل شقيقتها، وظل يقيم لمدة سنتين في مزرعة يملكها صهرها. كما قال المفكر اليسارى الراحل أنور عبدالملك إنه بعد تمكنه من الهرب من السجن، في زمن عبدالناصر، أخفته في منزلها حتى تمكن من الهروب من السجن، كما حمت في الخمسينات، اليسارى صلاح حافظ وأخفته في منزلها وكان طالبا وصحفيا سياسيا شابا في ذلك الوقت، وعادت مرة أخرى لتخفيه في منزلها في السبعينيات لكن هذه المرة من السادات بعدما انضم لتنظيم شيوعى سرى، وكان ينتقد الرئيس في كتاباته، وتربعت على عرش المتبرعين في أسبوع تسليح الجيش عام ١٩٥٥، بعد قرار عبدالناصر كسر احتكار السلاح والتحول إلى المعسكر الشرقى لتسليح الجيش، وقدمت جزء من مجوهراتها إضافة إلى التبرعات التي جمعتها من أماكن عدة. ساعدت «كاريوكا» المقاومة في مدن القناة ضد قوات الاحتلال البريطانى وكانت تنقل لهم السلاح، وانخرطت في العمل السياسى وتدربت على السلاح خلال العدوان الثلاثي على مصر ١٩٥٦، ثم خلال حرب يونيو ١٩٦٧.

هاجمت الوفد الإسرائيلي في مهرجان «كان» أثناء مشاركتها بفيلم شباب امرأة، عام ١٩٥٦، ووبخت الممثلة «ريتا هيوارث» بعد أن عمدت التحدث عن الوفد الإسرائيلى ومدحه، وأسمعتها بلغة إنجليزية سليمة ما لا تتخيله، واضطرت «هيوارث» إلى الهرب من سب كاريوكا.. وأسست جمعية برئاستها لمقاطعة الأفلام والنجوم ذوى الميول الصهيونية. كانت «كاريوكا» عضوا نشطًا في حركة «حدتو» الشيوعية السرية، ورغم موقفها السياسى من النظام، قامت كاريوكا بجمع تبرعات للجيش بعد نكسة يونيو ١٩٦٧، وكانت أول المتبرعين، ما جعل الرئيس جمال عبدالناصر يقول لها: «إنتى ست بألف رجل يا تحية».. شاركت في نقل الأسلحة إلى الجبهة أثناء حرب الاستنزاف.. وأيدت مظاهرات الطلبة في السبعينيات ودعمتهم ماديا وشاركت بالهلال الأحمر لدعم الانتفاضة. سافرت إلى قبرص عام ١٩٨١ كأحد ضيوف الحفل الذى أقامته منظمة التحرير الفلسطينية لدعم الانتفاضة، وألقت هناك قصائد حماسية وقامت بجمع تبرعات من الحاضرين لصالح الانتفاضة.
يقول عنها الكاتب طارق الشناوى في كتابه عنها كاشفا عن الدور السياسي، الذي يجهله الكثير من جمهورها: «ظلت تمارس الحياة السياسية حتى سنواتها الأخيرة، فلقد تزعمت اعتصام الفنانين، وكانت هي الفنانة الوحيدة التى أضربت عن الطعام عام ١٩٨٨، ولم يوقف إضرابها عن الطعام سوى تدخل الرئيس الأسبق حسنى مبارك الذي اتصل بها في نقابة السينمائيين مقر اعتصام الفنانين وداعبها قائلا: «عايزة يقولوا يا ست تحية إنك عشت تأكلين في عهد فاروق وعبد الناصر والسادات وبعدين تموتى جوعانة في عهد مبارك؟!".

أكدت الفنانة الراحلة رجاء الجداوى أنها تفتخر بأنها تربية خالتها تحية كاريوكا، وقالت: إنها تزوجت ١٧ مرة؛ لأنها كانت ترفض أن يلمسها رجل إلا في الحلال، وكشفت رجاء عن مفاجأة إقامة جدتها لسرادق عزاء لابنتها تحية كاريوكا بمجرد هروبها من المنزل للعمل كراقصة، وكان اسمها الحقيقى "بدوية" ورفضت الجدة مقابلة ابنتها وظلت تعتبرها ميتة، حتى تزوجت رسميًّا وأرسلت لوالدتها قسيمة الزواج الشرعية، وكانت هى التى تختار أزواجها، وتؤكد رجاء في حديثها عن كاريوكا أن رشدى أباظة أكثر من أحبت في حياتها، وكانت تتمنى لو أنجبت طفلًا منه. وأنها أنفقت كل ما جنته من الفن، ولم تترك ثروة لورثتها كما يظن البعض فالشىء الوحيد الذى وجدناه في خزانتها بعد وفاتها، هو «دبلة خطوبتها» من فايز حلاوة، وكانت موجودة في علبة قطيفة، «كانت بتقولى لو فيه قرش حرام ضاع منى، بحمد ربنا إنه خلصنى منه.. ووصلت لمرحلة كبيرة من الزهد والرضا».