الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

حكاية حجازي.. مرثية العمر الجميل

الشاعر الكبير أحمد
الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطي حجازي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
قبل أيام، تعرض الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطي حجازي لوعكة صحية نُقل على إثرها إلى المستشفى مؤخرًا، حيث أجرى جميع الفحوصات ومنها الرنين المغناطيسي، وتم الاطمئنان على الدورة الدموية للمخ؛ كما تم عمل أشعة على الصدر، وذلك إثر وجود كسر في الساق.
وإذ تتمنى "البوابة" الشفاء للشاعر الكبير، نستعيد معه مشاهد من رحلته الأدبية والفنية الطويلة، وكذلك أكبر المعارك التي خاضها منذ شبابه، عندما واجه أحد عمالقة عصره، وهو الأديب الكبير عباس العقاد، وحتى صموده في مواجهة جماعة الإخوان الإرهابية خلال العام الذي صعد فيه رجالهم إلى دوائر السلطة.

حياته..
ابن الجيل المتأرجح بين الأحلام والهزيمة.. ورائد حركة التجديد خلال النصف الثاني من القرن العشرين
ينحدر أحمد عبدالمعطي حجازي من أسرة ريفية عملت بالزراعة في تلا الواقعة في محافظة المنوفية، ولد عام 1935، وتلقى تعليمه عندما كان صغيرًا في كتّاب القرية، حيث كان الاهتمام منصبًا على تحفيظ القرآن الكريم وتعليم اللغة العربية؛ لينجح في إتمام حفظه كاملًا في سن التاسعة؛ ثم التحق بإحدى المدارس الابتدائية في مدينته، وبعدها انتقل ليكمل تعليمه الثانوي في مدرسة العلمين بشبين الكوم؛ والتي تخرج فيها عام 1955، وأكمل تعليمه الجامعي بنيله شهادة في علم الاجتماع من جامعة السوربون في فرنسا، وأتبعها بشهادة الدراسات المعمقة في الأدب العربي.
بدأ حجازي العمل الصحفي في عام 1956، حين التحق محررًا بمجلة "صباح الخير"، ثم قرر السفر إلى العاصمة السورية دمشق، وهو الأمر الذي أكسبه خبرات كثيرة، وعندما عاد إلى مصر عاد كمدير تحرير مجلة "روز اليوسف"؛ وفي عام 1990، انضم إلى كتاب جريدة الأهرام، وشغل في العام ذاته منصب رئيس تحرير مجلة "إبداع" الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب، واستمر في منصبه حتى عام 2014؛ كما تولى عدة مناصب أخرى من ضمنها عضوية المجلس الأعلى للثقافة، ورئاسة لجنة الشعر التابعة له.
ويعتبر حجازي واحدًا من رواد حركة التجديد الشعري التي برزت خلال النصف الثاني من القرن العشرين، ووصفه الناقد الكبير مصطفى بيومي بأنه "ينتمي إلى ذلك الجيل الاستثنائي الذي يمكن تلخيص تجربته الثرية المعقدة في التأرجح المرعب بين نقيضين: التحليق في سماوات الأحلام الوردية والسقوط في هاوية الكوابيس غير المسبوقة"؛ مستشهدًا ببعض قصائده عن عبدالناصر، في حياة الزعيم وبعد رحيله، والتي وصفها بأنها "شهادة فنية وفكرية بالغة الأهمية والعمق عن مرحلتي الازدهار والانكسار، الرهان على المستحيل والاصطدام بلعنة اليقظة الصادمة".
وأضاف بيومي: "كان صلاح عبدالصبور بعيدا عن الثقة بالتجربة منذ البدء، مسكونا بهواجس الشك والريبة صانعة الأحزان، وكان أمل دنقل على موعد مبكر مع الغضب والاحتجاج الذي يتحول فيه الإجهاض إلى مدخل للسخط والاحتجاج الغاضب بلا ضفاف، أما حجازي فهو الذي لا متسع في عالمه للتمييز والفصل بين الذاتي والموضوعي. الهزيمة التي تطول المشروع الناصري هي هزيمته الشخصية على نحو ما، والمرارة التي تسكنه تجسيد للخليط الذي يضفي على رؤيته شجنا موجعا يليق بأسلافه العظماء من الباكين على الأطلال، أو كأنه ذلك الرجل من أتباع الإمام على بن أبي طالب، يُسأل عن حزنه بعد اغتيال الخليفة-الحلم فيقول: كمن ذبحوا وليدها في حجرها".
وقد نشر حجازي أول دواوينه الشعرية "مدينة بلا قلب" في عام 1959، وفي العام نفسه نشر ديوانه الثاني "أوراس"؛ وفي عام 1965، صدر الديوان الشعري الثالث لحجازي بعنوان "لم يبق الا الاعتراف"، أما الديوان الرابع "مرثية العمر الجميل" فنشر عام 1972؛ بعدها أصدر "كائنات مملكة الليل"، و"دار العودة" عام 1983، و"أشجار الأسمنت" عام 1989؛ وتبقى قصيدة حجازي "مرثية للعمر الجميل" علامة ذات شأن رفيع متفرد في تاريخ الشعر العربي، حيث العمر الذي يعنيه يتجاوز الفرد المأزوم إلى الوطن المهزوم، وتمتزج فيه أوجاع الشاعر بانكسار الزعيم.
بالإضافة إلى الشعر، ألّف حجازي مجموعة من الكتب التي تطرقت إلى من سبقوه من الشعراء أو المعاصرين له، من أمثال خليل مطران، وإبراهيم ناجي وغيرهم؛ كما أصدر عددا من المؤلفات الأخرى منها "حديث الثلاثاء"، و"الشعر رفيقي"، و"مدن الآخرين"، و"عروبة مصر" وغيرها.
معاركه الأدبية..
العقاد وصف شعره بـ"عبث نثري".. وأثار المبدعين بمقاله "صفوة وحرافيش"
الصراع بين الجديد والمحافظ دائم ومتجدد وسمة كل عصر.. واختلف مه نظام السادات واشتبك مع هيئة الكتاب
قبل أن يتجاوز العشرين من عمره، خاض أحمد عبدالمعطي حجازي أولى معاركه مع قامة فكرية عملاقة، وهو الشاعر والمفكّر عباس محمود العقاد، الاسم الأبرز في عالم الثقافة في خمسينيات القرن الماضي، والذي كان يرى أن ما يكتبه الشعراء الجدد مثل صلاح عبد الصبور وأحمد حجازي ليس سوى "عبث نثري"، وفق وصفه؛ لذلك رفض مشاركتهم في مهرجان للشعر في دمشق، بل وهدد كذلك بالانسحاب من المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، كما أن لجنة الشعر أحالت إحدى قصائده إلى لجنة النثر على اعتبار أن اللون الشعري الذي انتهجه ليس شعرًا؛ وقال حجازي عن ذلك الموقف "شعرت بالاستفزاز من العقاد لأنه بالغ في رد فعله حول أشعاري".
بعد مرور أعوام عديدة، وجد حجازي نفسه مقررًا للجنة الشعر الذي كان يشغله العقاد، وكانت مواقفه مع قصيدة النثر في رأي الكثيرين أسوأ من العقاد الكلاسيكي الذي احتقر قصيدة التفعيلة حين بدأ يكتبها حجازي، برر ذلك بقوله "الصراع بين الجديد والمحافظ، سمة كل عصر. لكن الفرق بيني وبين العقاد أنّه استخدم سلطة الدولة لمواجهة النص الذي كنّا نكتبه. أظن بأنّني لم أستخدم سلطة الدولة لفرض تصوراتي".
وبعد عودته من العاصمة الفرنسية باريس، وكان قد سافر بعد خلاف مع نظام الرئيس السادات، تولى حجازي رئاسة تحرير مجلة "إبداع"، وهي المكان الذي شكّل موضع الكثير من معارك حجازي بداية منذ العدد الأول الذي كتب فيه مقاله الشهير "صفوة وحرافيش"، والذي قسّم فيه المبدعين إلى صفوة يُسمح لهم النشر في المجلة، وحرافيش لا يحق لهم النشر؛ وهو المقال الذي تسبب في مقاطعة معظم المثقفين للمجلة؛ بعدها أرسل أحد أساتذة جامعة الإسكندرية إلى رئاسة الجمهورية رسالة حذّر فيها من استيلاء اليسار على الثقافة، ورئاسة تحرير كل المجلات الثقافية، وقد كان يقصد حجازي، وغالي شكري الذي كان يرأس تحرير مجلة "القاهرة"، وجابر عصفور الذي يرأس مجلة "فصول"، وقد نشر حجازي الرسالة التي قيل إن نشرها أثار غضب مؤسسة الرئاسة؛ ثم أثار خلافًا جديدًا بسبب لوحة للفنان جوستاف كليمت نشرها في المجلة، عندها اتهمه المنتمون للتيار الإسلامي بأنها تخدش الحياء، وقدّم أحد نوابهم استجوابا لوزير الثقافة بشأنها في مجلس الشعب -مجلس النواب حاليًا- وبعد ذلك أثيرت أزمة أخرى بسبب نشر قصيدة للشاعر عبدالمنعم رمضان بعنوان "أنت الوشم الباقي".
تجددت معارك حجازي بعد ذلك لتشمل الهيئة المصرية العامة للكتاب، وهي الجهة ناشرة المجلّة، إذ اعترض الراحل سمير سرحان، رئيس الهيئة الأسبق، على نشر مقال للناقد المسرحي فاروق عبدالقادر، ينتقد فيه عملًا من أعمال سرحان؛ ثم جاء احتجاج بعض أهالي طلبة الجامعة الأمريكية على تدريس كتاب "محمد" لمكسيم رودنسون و"النبي" لجبران خليل جبران، فنشر حجازي نماذج من كتابات رودنسون، كي يحكم القارئ بنفسه، لكنّ عمّال المطبعة أرسلوا شكوى إلى رئيس الهيئة الذي قام بوقف العدد، ولم يعد أمام حجازي سوى الاستقالة من رئاسة تحرير المجلة.

حجازي والإخوان..
كره الجماعة وترك مناصبه الثقافية.. واتهم مكتب الإرشاد بتدمير مؤسسات الدولة
في كل أحاديثه، كان أحمد عبدالمعطي حجازي يؤكد على أن الإخوان اختطفوا ثورة يناير والديمقراطية، ولم يلقوا بالًا إلى مصلحة مصر والمصريين، وكان يُشير إلى أن طغيان الإخوان متمثلين في الرئيس المعزول محمد مرسي، والمرشد العام لجماعة الإخوان محمد بديع، والقيادي الإخواني محمد البلتاجي، فاق طغيان الملك فؤاد الأول، والذي وصفه حجازي في إحدي الندوات بمعرض القاهرة الدولي للكتاب بأنه "طاغٍ متحضر، يضع موسوليني مثالًا أعلى له، بينما مرسي اتخذ من السلطان عبدالحميد مثالًا أعلى له، فأصبح طاغيًا متخلفًا"؛ لذلك سعى المصريون إلى إسقاطه بعد أقل من عام على حكمه، مؤكدًا أن الإخوان لم يستطيعوا تغيير الهوية المصرية لأنها نتاج فعل تاريخي طويل "فالهوية كينونة ووجودها ثمرة عصور طويلة ونتاج ما نعرفه وما لا نعرفه".
وكانت خطوة حجازي في الاستقالة احتجاجًا على قرارات وسياسات وزير الثقافة الإخواني علاء عبدالعزيز، دافعًا لآخرين للتقدم باستقالاتهم تضامنًا معه واعتراضًا على الفكر الإخواني، منهم فاروق شوشة وحسن طلب؛ وجاء في نص الاستقالة التي أعلنها: "أنا أحمد عبدالمعطي حجازي، أعلن استقالتي من رئاسة تحرير مجلة إبداع التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب التابعة لوزارة الثقافة، ومن رئاستي لبيت الشعر التابع لصندوق التنمية الثقافية، احتجاجًا على ما يقع الآن للمثقفين المصريين ورجال القضاء ورجال الإعلام على أيدي الإخوان المسلمين وحلفائهم الذين استولوا على السلطة وآخرهم وزير الثقافة الحالي.
إنها خطة مدبرة للانفراد بالسلطة والبقاء فيها وتزوير التاريخ وإسقاط الدولة وتدمير مؤسساتها وانتهاك الحقوق والعدوان على الحريات والتنكيل بالمعارضين.
وأنا في مواجهة هذه الحرب الشرسة المعلنة على قوى الديمقراطية والاستنارة في مصر أعلن استقالتي وأرفض العمل في هذا المناخ".
إبداعات الشاعر الكبير محط أنظار الباحثين والدارسين.. وقصائد ديوان «مدينة بلا قلب» الأكثر تناولًا.
قال الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطي حجازي خلال كلمته بحصوله على جائزة أحمد شوقي لاتحاد كتاب مصر:«أن الشعر هو اللغة الأولى والحميمة الجامعة التي كان الإنسان يعبر بها عما كان يراه ويسمعه ويحسه ويفكر فيه وينفعل به ويتخيله يطلبه ويتمناه، والشعر بطبيعته هذه هو المعرفة أو هو أصلها، فقبل أن تكون اللغة علمًا كانت شعرًا، وقبل أن تكون تقريرًا كانت تصويرًا، وقبل أن تكون إشارات كانت موسيقى، والشعر ما زال هو هذه اللغة الأولى حتى الآن، ولهذا نحتاج دائمًا للشعر».
كان لا بد حينما نبدأ بالحديث عن الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطي حجازي أن نقتبس بعض أقواله، والتي عبرَّت عمًّا يمثل له الشعر، وعن مكانته في حياته وحياتنا جميعًا إذ يقول:« أما مكان الشعر في حياتنا هو مكان اللغة والثقافة وليست هناك لغة أو ثقافة بغير شعر، ولأن اللغة ماتت في العصور التي سبقت هذا العصر، فقد مات الشعر فيها، ولأننا نهضنا من جديد في هذا العصر الحديث فقد نهض الشعر ونهضت اللغة، وفي هذه النهضة لعبت مصر الدور الأول الذي مثله «أحمد شوقي» أمير الشعراء ونحن في هذا الطريق نواصل السير، وأن الشعر هو تراثنا وتراث الإنسانية»
فقد كانت وما زالت أعمال الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطي حجازي، محط أنظار الباحثين والدارسين، فكانت بمثابة النور الذي يضيء سماء الأدب العربي لعدد كبير من الباحثين والدارسين في حقل النقد الأدبي واللغوي، من خلال تجربته الشعرية، فهي تجربة تمتلك من مقومات الإبداع ما يؤهلها للدراسة والبحث، ولعل ديوانه الأول "مدينة بلا قلب" والذي كتبه في عام 1955، الأبرز في العديد من الدراسات البحثية، وفيما يلي نتطرق لأهم الدراسات التي تناولت أعمال الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطي حجازي سواء على مستوى اللغة الشعرية، وعلاقتها بالمكان والزمان، ومفردات حجازي التي ميزته عن الكثير من أبناء جيله.
أمجد محمد سعيد: "خارج الوقت" أهم قصائده.. عبرت عن طبيعة شعره ومقاصد موضوعاته.. وتجربة ذاتية في مقابلة الحياة والموت والحضور والغياب.

تناول الباحث أمجد محمد سعيد قصيدة "داخل الوقت" للشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي بالبحث والدراسة حيث يقول:" إن الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطي حجازي كان واضحا تماما أنه يعبر بشكل جلي ومنطقي وموضوعي، عن مدرسة واضحة المعالم في خريطة الشعر العربي المعاصر، وأنه في اختلافه مع الأصوات الشعرية الأخرى، يشكل أحد الينابيع الرائدة في بناء القصيدة العربية الحديثة، وأنه يتميز بخصوصية متفردة لها أبعادها الفكرية والفنية، ضمن المدرسة ذاتها، وأنه بالتالي يحظى بجمهور واسع من قراء الشعر الحديث ونقاده ومتابعيه، الذين وجدوا في شعره ذلك التواشج الداخلي بين التطلع إلى آفاق المستقبل في بناء قصيدة حديثة، دون التفريط المجاني بعصب ومفاصل القصيدة العربية التقليدية.
متابعًا:"وظل حجازي في أشعاره اللاحقة كغيره من الشعراء الرواد الكبار، أمينا على القصيدة التي يكتبها، معمقا ومتسعا في مشهده الشعري الخاص، رغم أنه اعترف مرات عديدة، أنه كان مقلا في الكتابة لأسباب لم يعلن عنها، حتى فاجأنا في أول مايو 2009 بقصيدة له نشرتها صحيفة الأهرام في ملحقها ليوم الجمعة بعنوان "خارج الوقت"، كانت نوعا من تأكيد الحضور الشعري للشاعر، ورَدّا إبداعيا على من قال إنه توقف أو نضب، وكانت مناسبة لأن نراجع أشعار حجازي من جديد مراجعة جمالية.
وأنه في قصيدته يحمل في إحالاته العديد من الإنزياحات المباشرة وغير المباشرة، وكلها في تقييم البعد الشعري لا تعطيك مفاتيح، بقدر ما تزيد في عدد الأبواب المغلقة التي عليك أن تجتازها.
والخارج هنا في العنوان، هل يعني الخارج المادي، أم الخارج المعنوي، أم الخارج الفني، أم الخارج الفكري، وهل هذا الخارج إيجابي المظهر والمحتوى، أم أنه سلبي النتيجة والمآل.
هل هو قيمة مقصودة، أم إشارة عفوية أتت في سياقها الطبيعي. وأخيرا هل هذا الخارج هو "خارج" فعلا، أم أنه والداخل متمازجان متداخلان في كون معرفي وفني واحد، وإذا افترض الشاعر أنه في المحيط الخارجي، هل لنا أن نأخذ افتراضه على محمل الجد، أم أن ذلك كان نوعا من الإيهام المقصود، يلعب الشاعر على أوتاره، ليحدد محيطه الخاص، إزاء المحيط العام الذي يعج بالأصوات في زمان ومكان واضحي المعالم والأبعاد.
أما المستوى الثاني من بنية العنوان فهو كلمة "الوقت"، وتأتي هنا لتحدد على نحو جلي ومقصود، الوقت الشعري بشكل رئيس، ثم الوقت بمعناه الحياتي العام، أو تعنيهما سوية، وفي ثقل موضوعي واحد.
وفي كل الأحوال فهي تختلف عن الزمن، مثلا، فللوقت حضور مادي أقرب إلى كينونة الشاعر، ووجوده الحاضر في المشهد الآني للأحداث، وللوقت أيضا ظلال أكثر نداوة وحميمية ونبضا وقربا للواقع اليومي الذي يهدف الشاعر إلى تصويره والتعليق عليه.
على أننا لا نعدم أن نرى علاقات ممكنة تفترض الإشارة إلى الزمن العام والزمن الخاص، وما بينهما من برهات وفترات تأخذ أبعادا ذاتية مرة، ومرة أبعادا موضوعية شاملة.
كأن الوقت الذي يعنيه الشاعر هنا أقرب إلى التجربة الذاتية الآنية القريبة من المشهد اليومي العام، وما يلقيه من ظلال على المشهد النفسي الإنساني الخاص في مقابلة الحياة والموت، والحضور والغياب.
ويخلص الباحث أمجد محمد سعيد قصيدة "خارج الوقت" للشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي، واحدة من أهم قصائده التي عبرت فعليا عن طبيعة شعره وطبيعة تناوله لمقاصد موضوعاته، وأثبتت أنه لا يزال أمينا على لغته وإطار تجربته الشعرية والفنية العامة. وأثبت أنه متابع:"لا يزال يمتلك ناصية القصيدة ويوجهها إلى ما شاء من أنحاء المعنى، وفضاءات المبنى، ما زال حجازي يمثل تلك المدرسة الشعرية الفنية التي تهتم ببعض الثوابت التي تخدم قصيدته وتمثلها، وفي مقدمة تلك الثوابت لغته الواضحة المفهومة والتي لا تستعصي على القارئ المتخصص والعادي أيضا، اللغة السلسة بمفرداتها القريبة، ومعانيها المحددة التي اختارها الشاعر بدقة كبيرة، لكي تؤدي معناه المقصود. وهي لغة قريبة من النفس، ولكنها لا تخرج من حيزها إلى مواقع اعتباطية ضبابية.
ومن ثوابت القصيدة هذه، وهي ثوابت حجازي، اهتمامه الكبير بموسيقى الشعر، وتأكيده على الالتزام بالتفعيلة، مع الاهتمام الواضح بالقافية التي تشد القصيدة من أولها إلى آخرها، والتي يعرف الشاعر، كيف يجعلها تُفعِّل تنويع الموسيقى العامة في القصيدة كلها.
ومن ثوابت حجازي قدرته الهندسية الدقيقة في بناء القصيدة، وعلى تشكيل وتوظيف المسافات بين مقطع ومقطع، وبين جملة شعرية وأخرى، بحيث يعرف كيف يريح القارئ، ويترك له المجال لالتقاط أنفاسه، وحتى لترك مساحة زمنية للتأمل والتفكير. ناهيك عن توفير التوازن بين هذه الجمل والمقاطع.
ولعلنا لا ننسى هنا أن الشاعر حجازي كان دائما يعبر عن المضمون السياسي والاجتماعي، في الكثير من نتاجه الشعري، معالجا قضايا وطنية وقومية وإنسانية، وهو هنا في هذه القصيدة، لا يبتعد عن ذلك، وإنما هو في صلب المواجهة الحادة مع أعداء الجماهير المطحونة، ولكن ليس من خلالها، ومن خلال معاناتها، بل من خلال معاناته هو شخصيا.
حين نشر حجازي هذه القصيدة، كانت أولا خبرا سعيدا لان نستمتع بقراءة واحد من شعراء الحداثة العربية في نتاج شعري جديد، وكانت تأكيدا على أنه لم ينضب كما اعتقد البعض حيث كسر فترة طويلة من الصمت، مجيبا في القصيدة ذاتها عن سر صمته، وسر عودته، إلى فضاء الشعر الفسيح.
وبعد فإن حجازي في الحقيقة ليس خارج الوقت، إنما هو موجود في صميمه وفي داخله، وما زال يتفاعل معه، سواء بالأساليب والصيغ الإنسانية المعروفة، أو بأساليب وصيغ تنبع من الحركة الدائمة المتطورة للحياة والفن والمجتمع.