الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

ليبيا.. الطريق إلى الاستقرار محفوف بالمخاطر

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
  • المستقبل بين آمال وتحديات ومحاولات بناء الدولة
  • "فجر ليبيا" تسيطر على أجزاء واسعة من طرابلس
  • أردوغان يعتزم إرسال دفعة جديدة من المرتزقة المنتمين إلى فصائل سورية موالية لها
  • وطن بين الاصطفاف والاستقطاب.. ٣ أقاليم وجماعات متطرفة ومرتزقة.. والقاهرة فرضت الخط الأحمر ولا مجال للعودة
  • «الإخوان المسلمين» رحلة الفشل والانكسار والهزيمة.. الجماعة الإرهابية تشكل حزبًا سياسيًا بعد 6 عقود من العمل السرى
  • أوهام الخليفة المزعوم!.. أنقرة تتخذ من ليبيا بوابة للسيطرة على غرب أفريقيا.. وتستخدم الأزمات لتأمين مصدر دائم للطاقة
  • خفايا الدور القطرى من الإطاحة بـ«القذافى» وحتى حكومة «الدبيبة»
  • الدوحة دعمت الاحتجاجات والتظاهرات عبر شبكة الجزيرة.. ووثيقة تكشف تحويلات مالية لأذرع «الإرهابية»



شهدت ليبيا على مدى السنوات العشر الماضية حالة صعبة من الاقتتال والتفكك وعدم الاستقرار، وتحولت أراضيها لساحة لتدخل قوي إقليمية وميليشيات إرهابية تسعى للسيطرة على مقدراتها وثرواتها، وباتت مصدر قلق وتهديد لجيرانها، ودفع الشعب الليبي فاتورة باهظة من الأرواح والثروات، جراء صراع الفصائل الليبية المسلحة، والتدخلات الأجنبية الداعمة لجماعات الإرهاب، خاصة جماعة الإخوان المسلمين وميليشيات "داعش" و"القاعدة ".
ومع إعلان البعثة الأممية للدعم في ليبيا الجمعة 5 فبراير 2021، فوز قائمة محمد المنفي برئاسة السلطة التنفيذية المؤقتة، ضمن مخرجات ملتقى الحوار السياسي الليبي، لتقود البلاد إلى حين إجراء الانتخابات العامة أواخر هذا العام 24 ديسمبر 2021، ويأمل الشعب الليبي، والعالم بأسرة أن يكون هذا الإعلان بداية لطريق الاستقرار وتحقيق تطلعات الشعب الليبي في السلام والبناء والرخاء وأعلن المكتب الإعلامي لرئيس الوزراء الليبي المكلف، عبدالحميد دبيبة، أنه بدأ مشاوراته مع الأطراف الليبية من أجل تشكيل الحكومة الجديدة.
ومن المقرر بعد تشكيل الحكومة الليبية، أن يتم عرضها على البرلمان من أجل نيل الثقة، وذلك في إطار القرارات المتخذة في الحوار السياسي في جنيف. وفي نفس السياق أجرى المبعوث الأممي إلى ليبيا يان كوبيش خلال الأيام الماضية اتصالات مع مسئولين محليين ودوليين لدعم عملية السلام وانتقال السلطة. وأكدت البعثة الأممية إلى ليبيا، في بيان لها 13 فبراير 2021، أن كوبيش، تحدث مع مسئولين ليبيين، بينهم القائد العام للجيش الليبي المشير خليفة حفتر. وأشاد كوبيش بدعم المسئولين الليبيين لتحقيق التقدم في الملفات السياسية والاقتصادية والأمنية، ملتمسا الآراء بشأن الخطوات التالية لضمان الإسراع في تشكيل الحكومة المؤقتة، وإحراز المزيد من التقدم في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية لإنشاء سلطات موحدة والمضي قدما في تحقيق المصالحة الوطنية وتنفيذ خارطة الطريق وصولا إلى انتخابات وطنية 24 ديسمبر 2021. وفي الوقت الذي أقدمت فيه قوى إقليمية (مثل قطر وتركيا) للتدخل في الشأن الليبي بارسال ميليشيات مأجورة لدعم أطراف بعينها في الصراع الليبي/ الليبي، سعيا للنفوذ والهيمنة، كان الموقف المصري الذي أعلنه الرئيس السيسي بحسم ووضوح نقطة البداية التي فتحت المجال أمام الأشقاء في ليبيا إلى الاتجاه للحل السياسي ونبذ الصراع العسكري، وانخرطت الدولة المصرية في معاونة الأشقاء الليبيين للتوصل إلى هذا المسار السياسي. وحسب ما صرح به وزير الخارجية المصري سامح شكري "أن ما تم التوصل إليه يعد نقطة مهمة، وتأمل الدولة المصرية أن يتم تشكيل الحكومة الليبية في الإطار الزمنى المحدد لها، لتحقيق الاستقرار والعمل على خروج كافة القوات الأجنبية من الأراضي الليبية، والانتهاء من مخاطر الإرهاب والالتزام القائم بعقد الانتخابات في 24 ديسمبر المقبل حتى يعبر الشعب الليبي عن إرادته لينتخب ممثليه حتى تنطلق الدولة الليبية في الفترة المقبلة. وأوضح وزير الخارجية، أن مصر سوف تستمر في رعاية هذا المسار، وتشجيع الأشقاء في ليبيا لاتخاذ الخطوات اللازمة، متابعا: "نتوقع أن يكون هناك احترام كامل للأمن القومي المصري وعدم السماح لأى تهديد للأراضي المصرية من الغرب". فهل تجد الأزمة الليبية المخرح الذي يحقق الاستقرار ويضع حدا لسنوات الخراب والدمار والإرهاب، وتتحقق إرادة الشعب الليبي لينطلق لبناء دولته الحديثة، أم تستمر قوى الشر في عرقلة جهود السلام والاستقرار؟ وهو ما نتناوله في هذا الملف.



"فجر ليبيا"
منذ سقوط نظام القذافي تعج الأراضي الليبية بعدد كبير من التنظيمات والجماعات والميليشيات الإرهابية، ومع توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وحكومة الوفاق المدعومة من جماعة الإخوان المسلمين واتفاقية التعاون الأمني والعسكري في نوفمبر ٢٠١٩ شهدت ليبيا تناميا في أعداد الجماعات الإرهابية والمرتزقة الذين تم تصديرهم من مناطق الصراع في سوريا والعراق، بالإضافة إلى إرسال المعدات والدعم المالي لهذه الجماعات لمساندة حكومة الوفاق الحليف الأقرب لأنقرة في التأثير على الأوضاع الداخلية الليبية.
وتواجد الكيانات الإرهابية على الأراضي الليبية يعود لفترة سابقة على سقوط نظام القذافي، فجماعة الإخوان المسلمين تواجدت مند النصف الأول من القرن الماضي، وكانت خافتة وسرية في عهد القدافي، والجماعة الليبية المقاتلة (فرع القاعدة في ليبيا) دخلت في مواجهات عنيفة مع حكم القدافي، خاصة بعد عودة الكثير من عناصرها التى كانت في أفغانستان، ونستعرض باختصار أبرز تلك الجماعات:


فجر ليبيا
جماعة إسلامية تسيطر على أجزاء واسعة من العاصمة طرابلس وهي التي هاجمت عام ٢٠١٤ مطار العاصمة واستولت عليه وعلى العاصمة. تعتبر الجماعة موالية لحكومة الوفاق في طرابلس، وتمتلك فجر ليبيا أسلحة ثقيلة بما فيها الطائرات وكانت تسيطر على معظم المدن الساحلية قبل أن تتمكن قوات المشير حفتر من انتزاع السيطرة منها بحيث اقتصرت سيطرتها على المدن الغربية الساحلية بدءًا من سرت حتى الحدود مع تونس، ومعظم عناصر الجماعة من مدينة مصراتة.
درع ليبيا
تجمع لمجموعات مسلحة متحالفة تحت هذا الاسم وتعمل في عدة مناطق في ليبيا. أهم هذه المجموعات درع المركز الموالية للمؤتمر الوطني في طرابلس، أما القوة الثالثة في درع ليبيا فتقودها الشخصية الإسلامية المعروفة وسام بن حميد الذي كان يقاتل إلى جانب زعيم أنصار الشريعة السابق محمد الزهاوي، والذي قتل في عام ٢٠١٥، ويتولى بن حميد منصب القائد الميداني لمجلس شورى ثوار بنغازي.
قوات موالية لنوري بوسهمين
الكتيبة ١٦٦ التي قاتلت إلى جانب قوات فجر ليبيا "داعش" في مدينة سرت والمناطق المجاورة لها. وانسحبت الكتيبة من المدينة قبل سقوطها بيد التنظيم في مايو ٢٠١٥ وهو ما أثار حفيظة حكومة شرق ليبيا وتتهم قيادة الكتيبة بالتواطؤ مع التنظيم. وردت قيادة الكتيبة بأنها انسحبت بسبب عدم تلقيها الدعم من حكومة الوفاق الوطني.


تنظيم داعش
ظهر التنظيم عام ٢٠١٥ معتمدًا إلى حد كبير على تواجد موالين له في مدينة درنة، معقل المتشددين تاريخيًا في شرق ليبيا. وبعد مبايعة "داعش" في سوريا والعراق استولى على المدينة وأقام إدارة لها. تم إرغام التنظيم على الفرار من المدينة في يوليو ٢٠١٥، فتوجه إلى مدينة سرت الساحلية ليفرض سيطرته عليها كاملًا، وهناك مخاوف من أن يحول التنظيم المناطق التي يسيطر عليها إلى معسكرات لتدريب "الإرهابيين" والتخطيط لهجمات دموية في حوض المتوسط على شاكلة الهجمات الدموية التي نفذها في القارة الأوروبية.
كما أن للتنظيم حضورا في مدن النوفلية وسدرا وبن جواد، وحاول في فترة معينة الوصول إلى المنشآت النفطية في رأس لانوف وقد وقعت مواجهات بينه وبين حراس المنشآت النفطية، وتخوض قوات مجلس شورى مجاهدي درنة ولواء "شهداء أبو سليم" المقربة من "أنصار الشريعة" مواجهات مع التنظيم. وتمكنت قوات الجيش الوطني مؤخرًا من طرد التنظيم من مدينة سرت وتواري مقاتلوه عن الأنظار.
أنصار الشريعة
تعتبر هذه المجموعة امتدادًا لفكر "تنظيم القاعدة" وتتمركز في شرق ليبيا وفي بنغازي ولها حضور بارز منذ الإطاحة بالقذافي عام ٢٠١١، ودخلت في مواجهات دموية مع قوات "الجيش الوطني" في بنغازي إلى أن تمكن الجيش الوطني من القضاء على وجوده في بنغازي، كما أن للمجموعة تواجدا في مدن درنة وصبراتة. وتتهم المجموعة بالمسئولية عن اغتيال السفير الأمريكي في ليبيا عند الهجوم على القنصلية الأمريكية في بنغازي عام ٢٠١٢ مما حدا بالولايات المتحدة إلى ادراجها في قائمة المنظمات الإرهابية. وأعلنت الجماعة عن حل نفسها في مايو ٢٠١٧ في خطوة يراها المراقبون بأنها كانت بهدف تفادي استهدافها من قبل الدول الغربية.
مجلس شورى ثوار بنغازي
وهو عبارة عن تجمع لمجموعات إسلامية بينها جماعات متطرفة مثل "أنصار الشريعة"، ولواء ثوار ١٧ فبراير ولواء "راف الله الساحتي" وخاضت هذه القوات صراعًا عنيفًا ضد قوات حفتر في بنغازي إلى أن تم القضاء على وجودها في المدينة. وقد شكلت هذه المجموعات ميليشيا جديدة تحت اسم "ألوية الدفاع عن بنغازي" وهي التي قتلت ثلاثة جنود فرنسيين لدى سقوط الطائرة العمودية التي كانوا على متنها في ليبيا، وقد اتهم ما يعرف تنظيم الدولة هذه المجموعات بالارتباط بقوات "فجر ليبيا" وكفرتها.


مجلس شورى مجاهدي درنة
مجموعة من الجماعات الإسلامية المسلحة تشكلت عام ٢٠١٤ وهي موالية لتنظيم القاعدة وبرزت بقوة على الساحة بعد نجاحها في طرد تنظيم داعش من أغلب أحياء مدينة درنة عام ٢٠١٥. وتوسعت المواجهات بين الطرفين في أعقاب قيام داعش باغتيال شخصيتين مقربتين من مجلس شورى مجاهدي درنة.
مجلس ثوار أجدابيا
جماعة إسلامية مسلحة تتمركز في مدينة أجدابيا الساحلية غرب بنغازي ويقودها محمد الزاوي. أعلنت وكالة "أعماق" التابعة لتنظيم الدولة "داعش" مرتين أن الزاوي قد بايع التنظيم أوائل عام ٢٠١٦ لكن المجلس أصدر بيانًا أشار فيه إلى أن المبايعة أمر يخصه ولا صلة للمجلس بهذا الأمر. وتناصب هذه المجموعة خليفة حفتر العداء أيضا ووقعت صدامات بينهما.
أما عن تواجد جماعة الإخوان المسلمين في ليبيا، سيتم تناولها بشكل مفصل، باعتبارها الجماعة الأم التى خرج من رحمها فكرا وممارسة كل تلك الجماعات الإرهابية التى عرضنا لها.



المرتزقة المنتمين إلى فصائل سورية موالية لها
بينما يسعى الجميع نحو الاستقرار في ليبيا وإيقاف الصراعات المشتعلة والاتجاه لحل سياسي إلا أن الجانب التركي يسعى لغير ذلك، ويستخدم المرتزقة كقوة ضغط لتحقيق مكاسب على حساب الشعب الليبي واستقراره، وفي هذا السياق شددت تركيا في ١٣ فبراير الجاري، على بقاء قواتها العسكرية في ليبيا بموجب مذكرة التفاهم الموقعة مع حكومة فائز السراج في ٢٠١٩، مؤكدة أنه «لا يمكن التوصل إلى حل في ليبيا» من دونها. وأشارت إلى أنها تدعم الحكومة المؤقتة في مهامها حتى إجراء الانتخابات أواخر العام الحالي.
وبينما أكد المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالين، أن الوجود العسكري لبلاده في ليبيا سيظل قائمًا طالما استمرت مذكرة التفاهم الموقعة مع حكومة السراج، وحسب المرصد السوري فإن تركيا تعتزم إرسال دفعة جديدة إلى ليبيا من المرتزقة المنتمين إلى فصائل سورية موالية لها، ويأتي ذلك وسط مطالبات دولية بخروج جميع المقاتلين الأجانب من ليبيا.
وأوضح المرصد السوري أن التحضير لإرسال المجموعة الجديدة من المرتزقة إلى ليبيا، يتزامن مع تجميد عودة مجموعة أخرى تتكون من ١٤٠ عنصرا.
وكان خروج جميع المقاتلين الأجانب من ليبيا أحد أبرز بنود الاتفاق الليبي الليبي في يناير الماضي. وفي هذا السياق شدد وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان الجمعة ١٢ فبراير الجاري، على ضرورة خروج القوات الأجنبية والمرتزقة من ليبيا، وذلك خلال اتصال مع المبعوث الأممي الخاص إلى ليبيا يان كوبيش. وأكد البيان الصادر عن لودريان على أهمية الانتقال الحقيقي إلى الانتخابات المقرر إجراؤها في نهاية العام. "وشدد على أهمية الإسراع بتشكيل حكومة شاملة وتمثيلية وتنصيبها، وضرورة التنفيذ الكامل لوقف إطلاق النار في ٢٣ أكتوبر ٢٠٢٠، بما في ذلك رحيل القوات الأجنبية والمرتزقة". وأبلغ لودريان المبعوث الدولي دعم فرنسا لجهود الأمم المتحدة لإنهاء الأزمة السياسية في ليبيا ووضع حد للتدخل الأجنبي.
يأتي ذلك بينما تماطل تركيا في سحب قواتها والميليشيات المرتزقة التابعة لها من ليبيا.
ويأتي البيان التركي، رغم الدعوات الدولية بإخراج المرتزقة من ليبيا، خاصة بعد انتخاب أعضاء السلطة التنفيذية الجديدة، والشخصيات التي تم اختيارها للمرحلة الانتقالية، وسط ترحيب دولي واسع. وتعليقًا على هذا الأمر، تحدث وزير الخارجية التركي الأسبق، يسار ياكيس، قائلًا إن عدم إعلان تركيا خطة لسحب وجودها العسكري من ليبيا، يمنع التوصل إلى نتيجة مرضية للعملية السياسية، متوقعًا أن تواجه تركيا ضغوطًا من قبل الولايات المتحدة والمجتمع الدولي في الفترة المقبلة، لإخراج مرتزقتها من ليبيا.
وأضاف ياكيس في تصريحات له أن أنقره لا تريد التخلي عما اكتسبته في ليبيا، لأن كل هدفها هو السيطرة على ثروات البلاد من النفط، مشيرًا إلى أن وزارة الخارجية التركية رحبت مرة أخرى باختيار السلطة الجديد في ليبيا، ولكن أيضًا دون أي إشارة إلى خطة لسحب وجودها العسكري.

وطن بين الاصطفاف والاستقطاب
تعد ليبيا والسودان وفلسطين من الدوائر المهمة المتفاعلة مع مصر، والمؤثرة فيها والمتأثرة بها، لذا فإن أي أحداث أو تداعيات في أيٍ من تلك الدوائر المتداخلة والمتأثرة ببعضها تجد صداها في العمق المصري والعكس صحيح تمامًا.
وفيما يخص الشأن الليبي يقول الدكتور محمد أمين عبد الصمد الباحث المتخصص في الشأن الليبي تعي مصر جيدًا أن استقرار ليبيا يعني استقرارها هي، والتركيز في خططها التنموية وهو ما يستلزم عدم وجود أية مشكلات أو صراعات في جانبها الغربي - الذي يمثل أحيانًا وبصدق جناحها الغربي- وذلك بسبب التداخل الديموجرافي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي، بين البلدين: مصر وليبيا، فأي انفجار أو حدث في درنة أو البيضاء في ليبيا سيكون صدى هذا الحدث في دلتا مصر، وأحداث طرابلس ذاتها تجد صداها في العريش.
ولمعرفة مصر العميقة بالأخت الجارة ليبيا فهي تعلم أن هناك عدة قضايا تحتاج إلى حل مرضٍ حتى يتم حل المشكلة الليبية من جذورها وعودة أو خلق التجانس بين أطياف الشعب الليبي، ويرصد الدكتور محمد أمين عبد الصمد عدة قضايا في هذا الصدد قائلا القضية الأولى: هي قضية القبلية والتي لها حضور مؤثر وفاعل في الاستقطاب والاصطفاف في الدولة الليبية، ويتضح ذلك في اختيار السياسيين التنفيذيين أو التشريعيين الذي يتأثر بالانتماء القبلي.
والقضية الثانية: هو البعد الجهوي وهو الانتماء إلى أي من الأقاليم الثلاثة المكونة لدولة ليبيا ولكل إقليم خصائصه الثقافية التي تعد ترجمة لعلاقات الإقليم مع ما يحيطه من تنويعات ثقافية تشكلت على مر التاريخ. فإقليم برقة شرق ليبيا وإقليم فزان في جنوب ليبيا وطرابلس غرب ليبيا، ولكل إقليم خصائصه الثقافية وحقوقه وحقوق أبنائه والتي يرى أغلب أبناء الأقاليم بأهمية مراجعتها وإعادة النظر فيها وذلك بحثًا عن التوزيع العادل للثروة والتنمية العادلة لكل شبر في ليبيا.
ومن القضايا المهمة التي حاولت مصر المساعدة في حلها قضية توزيع الثروات بين الأقاليم الثلاثة بعدالة، خاصة إذا علمنا أن معظم الدخل الليبي يعتمد على عوائد النفط، وهو ما يمثل قضية مهمة سواء على مستوى البحث عن العدل أو البحث عن تنمية حقيقية.
ومن قضايا التراث التاريخي الليبي التي ما زالت مؤثرة في العلاقات بين مختلف الأقاليم الليبية هي الثأرات التاريخية والتي يعود بعضها إلى مائتين عام مضت ولكنها ما زالت حية في وجدان الليبيين يدعمها تراث ثقافي قبلي شديد الإنحياز للذات والتمركز حولها. لذا تعي مصر أهمية تجاوز فواتير الثأرات التاريخية التي لن ينتج عنها سوى المزيد من الصراعات.
وزاد تعقد المشهد الليبي بظهور بؤر للجماعات المتأسلمة المتطرفة التي تتبنى أيديولوجية متشددة ضد المجموعات والأبعاد الأخرى، مستخدمة السلاح مستندة لأيديولوجية عقائدية تدعم فعلهم وتزكيه.
ولعلم مصر التام بالملف الليبي وما فيه، وبعد الصراع العسكري الأخير والذي واجه فيه الجيش الوطني الليبي جماعات متطرفة مدعومة من قوى خارجية لا يهمها سوى الاستيلاء على مقدرات الشعب الليبي وثرواته، بغض النظر عن حقوق مواطنيه، لذا كان قرار رسم (الخط الأحمر المصري) الذي أوقف اجتياح الشرق الليبي من قوات حكومة الوفاق المدعومة من تشكيلات مرتزقة من خليط من الجنسيات، أكثرها مشاركة المرتزقة السوريين والذي جلبتهم جميعًا دولة تركيا لتحقيق مطامعها في الثروات الليبية، وسرقة مقدرات الشعب الليبي، لذا كان (الخط الأحمر المصري) سببًا في وقف الاقتتال الليبي وكذلك نزع فعلي لفتيل حرب دولية كان من الممكن أن تكون مسرحًا لحرب عالمية متعددة الأطراف.
لذا كانت التحركات المصرية الناضجة مثالًا يُحتذى به لإنقاذ شقيقتها ليبيا من (صوملة) أو (أفغنة) كانت قريبة جدا، ومدعومة من قوى خارجية لا تبغي لليبيين إلا كل فرقة حتى تستمر في سرقتها لمقدرات الشعب الليبي، تحت دعاوى الاتفاقيات القانونية، والحقوق التاريخية المزعومة.
الدكتور وائل صالح الأستاذ المساعد في معهد مونتريال للدراسات الدولية بجامعة كيبيك بمونتريال بكندا يقول: أثبتت الأيام أن مصر هي الدولة الوحيدة التي تسعى بالفعل إلى الحفاظ على وحدة التراب الوطني الليبي وإلي توافق يشمل مختلف الأطياف السياسية الليبية. وأكدت مصر في أكثر من مناسبة على أنها على أتم الاستعداد لمساعدة الليبيين على حل الأزمة السياسية ولتسخير كافة إمكاناتها من أجل المساهمة مع الليبيين في إعادة بناء دولة حديثة قوية تتمكن من إرساء دعائم الأمن والاستقرار في كافة أنحاء ليبيا. من جانب آخر لم تطمع مصر في ليبيا كما طمعت تركيا في سوريا، فالدور المصري لا ينطلق إلا من احترامه لقيم الإخاء بين الدول والشعوب العربية، وقيم حسن الجوار، وحرص مصر على أمن وازدهار الشعب الليبي وعلي سيادته على كامل أراضيه وعلي حماية مقدراته. وأكد صالح أن مصر تولي أهمية كبيرة لعودة الاستقرار إلى ليبيا من خلال دعم بناء المؤسسات الوطنية بالدولة وتعزيز تماسكها والتأكيد على أن الليبيين فقط هم من يملكون حق تقرير مصيرهم وعلى قدرتهم على التغلب على التحديات وعلى رأسها مجابهة كافة أشكال التدخل الأجنبي في ليبيا وإعلاء المصلحة الوطنية الليبية فوق أية مصالح أيدولوجية ضيقة.


«الإخوان المسلمين» رحلة الفشل والانكسار والهزيمة
تعد ليبيا من أول البلاد العربية التى انطلقت إليها جماعة الإخوان المسلمين بعد فلسطين والسودان في منتصف القرن الماضى، فالتنظيم تمتد جذوره منذ بدايات نشأته الأولى في مصر على يد حسن البنا، عندما عاصره عدد من المهاجرين والطلبة الليبيين بين جنبات الأزهر الشريف وفى أروقته وعلى صفحات الإصدارات الدينية.
وعقب ثورة ١٧ فبراير عام ٢٠١١ ضد نظام معمر القذافى، بدأ الإخوان ينتعشون، وأظهروا أنفسهم أمام الجميع وعلى الملأ، واستفاد إخوان ليبيا من تجارب نُظرائهم بمصر، حيث شكلوا خلايا في كل من جربة وبنغازى والقاهرة، ثم دخلوا عبر بوابة المجلس الوطنى الانتقالى، وسيطروا على الحكومة حتى بات مصطفى عبدالجليل يوصف بأنه إخوانى صغير، ووفر لهم جناحهم العسكرى «الجماعة المقاتلة»، حماية لظهورهم.
ودعا المكتب التنفيذى لجماعة الإخوان آنذاك الحكومة الانتقالية المؤقتة أعْضَاءَ الجماعة وكل الليبيين إلى «الالتفاف حول الشرعية والديمقراطية، والتمسك بها، ورفض كل أشكال تجاوز الشرعية أو محاولة الاعتداء عليها، حفاظًا على أمن الوطن واستقراره».
وشكلت جماعة الإخوان في ٥ مارس ٢٠١٢، حزبًا سياسيًا باسم «العدالة والبناء»، وذلك بعد ستة عقود كانوا يعملون خلالها في سرية تامة، أثناء نظام معمر القذافى، وقد تم إنشاؤه في ظل غياب القوانين بطرح عملية رسمية لإنشاء الأحزاب السياسية، وقد مثّلت الجماعة في أكثر من ١٨ مدينة في جميع أنحاء البلاد.
واختاروا محمد صوان رئيسًا للحزب، وهو مواطن من مدينة مصراته التى شهدت بعضًا من أسوأ درجات القتال في الحرب الأهلية التى أسقطت القذافى، وشمل الحزب أنصارًا لرجال الأعمال الأثرياء الذين عادوا إلى البلاد بعد الحرب.
وكان الغطاء الخارجى لأهداف الحزب وقتها، إقامة مجتمع عادل ووضعت على أساس قيم ومبادئ الإسلام، وقال الحكام المدعومون من الغرب في ليبيا، إن الشريعة الإسلامية ستكون المصدر الرئيسى للتشريع».
ونجحت جماعة الإخوان بليبيا، في التمكين من المؤسسات السيادية في الدولة، بداية من الحكومة، ومرورًا بمصرف ليبيا المركزى، وباقى مراكز المال الأخرى.
وزعمت الجماعة تمسكها بثوابت ثورة ١٧ فبراير من بناء دولة المؤسسات مع الفصل بين السلطات وحرية الإعلام والصحافة وفق الضوابط الشرعية واستكمال مشروع الدستور بضوابط الشرع الحنيف، مع دور بارز وفعال لمؤسسات المجتمع المدنى، ليرتد خالد المشرى عضو حزب العدالة والبناء المنتمى لتيار «الإخوان المسلمين» عن الثورة إلى أعادتهم للحياة بالقول إن الجموع التى خرجت يوم ٧ فبراير ٢٠١٢ لمواجهة هيمنتهم على الحكم ما هى إلا أطفال مغرر بهم تم استغلالهم.
وفى محاولة من الإخوان لإفشال حكومة على زيدان، التى شُكلت عقب حل المجلس الانتقالى الليبى، أعلن حزب العدالة والبناء الإسلامى، الذراع السياسية للجماعة بليبيا، سحب وزرائه من الحكومة الليبية، وحاول الإخوان لأكثر من مرة أن يدفعوا حكومة زيدان إلى الاستقالة سواء من بوابة المؤتمر الوطنى، أو من خلال الضغوط الميدانية وتحريك أذرعهم العسكرية وميليشياتهم.
وسرعان ما أطاح إخوان ليبيا برئيس الوزراء، لاعترافه بثورة يونيو في مصر بعد خطفه والتنكيل به وكان القرار من المؤتمر الوطنى العام الواجهة الحقيقية لجماعة الإخوان وهو سحب الثقة من رئيس الوزراء الليبى السابق على زيدان، حيث تمكن من الفرار إلى ألمانيا.
وبعد سقوط نظام الإخوان في ٣٠ يونيو و٣ يوليو، وفور ذهابه إلى مصر عَقد زيدان اجتماعًا بالقيادة المصرية واعتبر أن ما حدث في مصر ثورة دعم حقيقى لحكمه في ليبيا، وأنه قد آن الأوان لبدء تعاون فورى وفعلى على جميع المستويات، خاصة الاقتصادية والأمنية مع مصر من أجل ضبط الحدود بالدرجة الأولى والسيطرة على الوضع الداخلى الليبى.
وقام الإخوان بالتعاون مع تنظيم القاعدة بتدشين ما يسمى «الجيش المصرى الحر» في ليبيا، الذى تموله قطر وتركيا وإيران، وكانت مهمته الهجوم على قيادة المنطقة العسكرية الغربية، وتدمير وحدات مصر القتالية بمطروح.
وطالب الليبيون وجموع الثوار آنذاك بثورة جديدة تطيح بالإخوان والقاعدة من حكم ليبيا، على غرار ما حدث في مصر.
وأشاروا إلى أن الإخوان والقاعدة أعداء للدين وللوطن لا يعرفون معنى الإسلام ويسعون لدولة الخلافة المزعومة منهم، مؤكدا أنهم نسفوا منزله وقناة ليبيا أولا.
وفى عام ٢٠١٥ تشكلت حكومة الوفاق برئاسة فايز السراج بدعم وتمويل تركى، حيث عبر الرئيس التركى رجب طيب أردوغان عن دعمه لحكومة الوفاق، وبالتالى قدمت تركيا لحكومة الوفاق كامل الدعم المادى والمعنوى بالأسلحة والمرتزقة وطائرات دون طيار، ومدرعات وذخائر إلى جانب ذلك تم توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين الجانبين.
فيما اعتبر الإخوان ما قام به الجيش الليبى بقيادة اللواء خليفة حفتر من رفض لمشروع أخونة ليبيا على يد السراج، انقلابًا على الشرعية كما زعموا، ودخلوا في تحالف وتنسيق مع الجماعات الإرهابية التى يقاتلها حفتر تحت شعار «معركة الكرامة».
يعتمد تنظيم الإخوان الإرهابى على بقائه لاعبا في الساحة الليبية على الفوضى الأمنية والارتباك والانشقاق السياسى وانتشار السلاح والميليشيات وضعف الدولة والفساد المالى، فهذه العوامل هى الوسط الحيوى لحياة التنظيم ونموه، وبالتالى الحفاظ على بقائه لأطول فترة ممكنة.
ويرى مراقبون أن حالة من الهلع تصيب هذا التنظيم وميليشياته كلما لاحت حلول لأزمة البلاد الغارقة في الفوضى منذ عام ٢٠١١، ويعبر هذا الهلع عن نفسه في شكل تدبير عمليات إرهابية وإحداث فوضى وإعادة تمركز لعناصره قرب المنشآت الحيوية، إضافة إلى محاولات ضرب المسارات التفاوضية أو تشتيتها.
وفى بداية الشهر الجارى لم يحقق إخوان ليبيا ما كانوا ينتظرونه من ملتقى الحوار السياسى في جنيف، واضطر مرشحهم الأبرز للمجلس الرئاسى خالد المشرى إلى الانسحاب من قائمة المتنافسين قبل ساعات من الانتخابات، كما فشل مرشحهم لرئاسة الحكومة فتحى باشاغا في الفوز بالمنصب.
وفى الوقت الذى بدأت الانفراجة تلوح في الأفق وتشكلت حكومة انتقالية في ليبيا وكعادتهم بالانقلاب على السلطة وتقويض السلام رفض عدد من قيادات إخوان ليبيا لقاء المشير حفتر مع رئيس المجلس الرئاسى الجديد محمد المنفى، حيث وصف المشرى لقاء حفتر والمنفى «أول القصيدة كفر»، على حد تعبيره.
وزعم المشرى أن لقاء المنفى وحفتر رسالة سلبية لليبيين لا علاقة لها بالتوافق وجمع الوطن بعد كل ما تسبب فيه من دمار ومآسٍ»، على حد قوله.
ويرى المراقبون أن الإخوان سعوا كعادتهم إلى تقاسم الأدوار بين مرحب بنتائج ملتقى جنيف مثل على الصلابى، وإلى مكتف بالأسف والحزن مثل محمد صوان، مقابل طيف آخر أعلن رفضه التام للسلطات الجديدة.
فقد أعرب الإخوانى المقيم في تركيا عبدالباسط غويلة، عضو دار الإفتاء، عن رفضه للحكومة الجديدة التى نتجت عن حوار جنيف وفاز بها محمد المنفى رئيسًا للمجلس الرئاسى، وعبدالحميد الدبيبة رئيسًا للحكومة، وقال في تسجيل مرئى: حكومة ستيفانى لا تمثلنى.
ويرى الليبيون أن نتائج جنيف مثلت هزيمة مدوية لجماعة الإخوان، وفشلًا لمشروعهم، وانكسارًا لمخططهم الذى كانوا يطمحون لتمريره، والذى يهدفون من خلاله إلى التلاعب بخطة الطريق الأممية ووضع العراقيل أمام الاستحقاقات المقبلة، سواء على الصعيد الترتيبات العسكرية أو الدستورية أو الاستحقاقات الانتخابية.



أوهام الخليفة المزعوم!
ترى أنقرة في السيطرة على ليبيا بوابة مهمة لتعزيز النفوذ في الساحل وغرب أفريقيا، وتنفيذ أجندتها التوسعية في العالم العربى من خلالِ بوابة المغرب العربى، ولا تحتاج أدوات التدخل التركى في ليبيا إلى عبقرية لتلمس ملامحها.
فقد جاء دخول تركيا إلى ليبيا بغطاء من المجلس الرئاسى لـحكومة «الوفاق» وتحت عباءة قوى وتيارات إسلامية متشدِدة. حيث وافق البرلمان التركى في ٢ يناير ٢٠٢٠، على مذكرة الرئيس رجب طيب أردوغان التى تتيح إرسال قوات عسكرية إلى ليبيا دعما لحكومة «الوفاق» في طرابلس التى تعانى قواتها من صعوبات في مواجهة قوات الجيش الليبى بقيادة المشير خليفة حفتر؛ وفى ٢٧ نوفمبر ٢٠٢٠ وقعت مذكرتا تفاهم بين فايز السراج رئيسِ حكومة الوفاق والرئيس رجب طيب أردوغان، الأولى تتعلق بالتعاون الأمني والعسكري، والثانية بتحديد مناطق الصلاحيةِ البحرية في البحر المتوسط، وهذا يعنى أن أردوغان حصل على تفويض لنشر قوات في ليبيا، ووفقا لنص التشريع فإن ذلك يأتى بحجة أن التطورات في طرابلس تهدد مصالح تركيا.
أولًا: محفزات التدخل التركى في ليبيا اقتصاديًا وتجاريًا
تسعى تركيا جاهدة عبر مسارات مختلفة، وبالاستفادة من أجواء الحرب الليبية، للخروج بحزمة مكاسب تمكنها من تأمين مصدر دائم للطاقة، إذ ظلت على مدى العشرين عاما الماضية تستورد ٩٥٪ من احتياجاتها النفطية من ليبيا، بل ستسعى لأن تلعب دور موزع النفط الليبى إلى أوروبا بدلا عن المؤسسة الوطنية الليبية للنفط؛ وعمليا بدأت شركة البترول التركية TPAO التى تزيد استثماراتها على ١٨٠ مليون دولار في ليبيا، بالتنقيب عن النفط في ليبيا في أوائل عام ٢٠٠٠، لكنها أوقفت عملياتها عام ٢٠١٤. ثم عاودت العمل مرة أخرى بعد توقيع الاتفاقية الجديدة التى سيتركز التنقيب عن النفط وفقًا لها في المنطقة الاقتصادية الخاصة الموقعة بين تركيا وليبيا، من خلال تطوير مشاريع مشتركة للطاقة في المنطقة التى تسمى بالهلال النفطى. وهناك حضور قوى لعدد من شركات النفط العالمية في ليبيا مثل «توتال» الفرنسية و«إينى» الإيطالية و«كونوكو فيليبس» و«هيس» الأمريكيتين و«فينترسهال» الألمانية.
وفيما يتعلق بقطاع البناء وإعادة الإعمار، تعد ليبيا شريكًا تجاريًا كبيرًا لتركيا في مجال تقديم خدمات المقاولات منذ عام ١٩٧٤م، وبعد أحداث «الربيع العربي» تراجعت صادرات تركيا إلى ليبيا، وتعثرت مشاريعها الاقتصادية التى بلغت قيمتها نحو ١٩ مليار دولار، وتأثرت بذلك العمالة التركية، كما تأثر قطاع السياحة بتقلص أعداد السياح الليبيين في تركيا، وفى محاولتها إعادة أصولها ونشاطها الاقتصادى، والحصول على مزيد من الفرص الاستثمارية خاصة في قطاع البناء والإعمار؛ تحاول تركيا الاستحواذ على جزء كبير من الاستثمارات المتوقعة في ليبيا بمجال إعادة الإعمار والبنية التحتية، بقيمة تصل إلى ١٢٠ مليار دولار.
ثانيًا: الدوافع السياسية والأيديولوجية
ترى تركيا أن حضورها في ليبيا هو مفتاح اللعبة الذى سيعطيها مزيدًا من القوة والتأثير، وتريد أن تثبت مكانتها وتعمق نفوذها هناك لتحقيق عدة أهداف منها: السعى لإحداث نظام إقليمى جديد في المنطقة يجعلها تصعد من لاعب إقليمى إلى لاعب متميز حتى تتمكن من تثبيت ركائز «الإخوان المسلمين» بمنطقة المغرب العربى ومصر.
وعلى المستوى الداخلى التركى ينظر أردوغان إلى كسب نقاط إضافية من جراء العوائد التى سيحصل عليها من تدخله في ليبيا بما سيدعمه في الانتخابات القادمة، إذ يسعى لجلب أصوات القوميين والإسلاميين بإشعال حرب تؤجج المشاعر القومية والدينية، وخلق أزمةٍ على المستوى الدولى من شأنها أن تثير دويًّا في الرأى العالمى. كما يسعى إلى تصدير أيديولوجيته إلى الدول العربية، ويطمح مخططو السياسات الأتراك إلى إنشاء وتعزيز هوية تركية وهمية لدى بعض السكان الليبيين في أجزاء من غرب ليبيا على أساس رواية زائفة للتاريخ مرتبطة بالعصر العثماني؛ ومن أجل تحقيق هذا الهدف يتم الحشد القومى عن طريق أذرع تتفرع من الوكالة التركية (MIT) تقوم بترويج تراث العصر العثمانى واللغة التركية.
ثالثًا: الدعم العسكرى التركى لـحكومة الوفاق
قبل توقيع الاتفاقية بين تركيا وحكومة «الوفاق» كانت تعمل في ليبيا هيئة استشارية تركية برفقة بعض القوات العسكرية، وتوسع الحضور العسكرى التركى بعد أن طلبت حكومة «الوفاق» تدخلًا تركيا واسع النطاق استطاع تغيير مسار الحرب لصالح حكومة السراج. فمذكرة التعاون الأمني والعسكرى المبرمة بين ليبيا وتركيا ومذكرة التفويض التى صادق عليها البرلمان التركى تُتيحان لأنقرة إمكانية تقديم كل أنواع الدعم العسكرى والأمني لحكومة «الوفاق» بما فيه بناء قواعد عسكرية فوق الأراضى الليبية.
ويتم الدعم العسكرى التركى بالسلاح، عبر ثلاثة محاور؛ الأول: يتضمن ما تنتجه تركيا من طائراتٍ مسيرة وحاملات جنود مدرعة مع تسليحها، ومضادات للدروع والأسلحة الخفيفة والمتوسطة، والثانى: يشمل الأسلحة القديمة في مخازن الجيش التركى من طائرات ومدرعات ودبابات ومدفعية، أما المحور الثالث: يتم عبر شراء أسلحة أوروبية شرقية أو أمريكية، لصالح الجيش التركي، ومن ثم إرسالها إلى الميليشيات في ليبيا، مع الحصول على مكاسب مادية من إعادة البيع.
من ناحية أخرى، يتمتع أردوغان وحكومته بعلاقات قوية مع ميليشيات مسلحة ليبية، وتستهدف تركيا في علاقتها مع هذه الكتائب والميليشيات توظيفها في حرب بالوكالة، لكون الرأى العام التركى قد يعترض على تعرض الوحدات التركية النظامية لخسائر بشرية مباشرة.
كما نشطت تركيا، عبر الفصائل العسكرية السورية الموالية لها في تجنيد آلاف المقاتلين السوريين للقتال في ليبيا. وتشير معظم التقديرات إلى أن عدد المقاتلين السوريين الذين أرسلتهم أنقرة إلى ليبيا تجاوز عشرة آلاف مقاتل. وصلت طلائع هؤلاء المقاتلين أواخر عام ٢٠١٩ إلى تركيا، ثم نُقلوا إلى ليبيا مقابل وعود بمرتبات شهرية وخدمات الإعاشة والسَكن التى ستقدمها لهم حكومة «الوفاق» في طرابلس، وتحرص تركيا على استخدام المرتزقة على الرغم من أن القانون الدولى يمنع تجنيدهم واستخدامهم في القيام بأعمال مسلحة أو إرهابية لتحقيق هدفين؛ الأول: يتمثل في حل مشكلة تدفق هذه العناصر المسلحة لتركيا، إذا ما نجح الجيش السورى في إكمال سيطرته على أراضى الشمال، مما يخلق عبئا على الداخل التركى؛ والثانى: هو دعم حكومة السراج وتحقيق نفوذٍ تركيٍ أكبر في ليبيا.
هذا وتسعى تركيا إلى المحافظة على تواجُد المشروع الإخوانى في شمال أفريقيا خصوصًا بعد تراجُعه في تونس والجزائر ومصر، وفى حال نجحت في ذلك فيُمكن أن تصبحَ ليبيا مرتكزًا لتنظيم «الإخوان» في الإقليم ونقطةً لإعادة الانطلاق بعد خسارة نفوذهم السياسي؛ وتُعدُّ ليبيا هى الموقع المثالى الآن لهذا التواجد، لعدَّة عوامل بعضها يتعلق بإمكاناتِ ليبيا وموقعِها الجغرافى بين مصر وباقى دول المغرب، ومواردها وثرواتها الغنية.

خفايا الدور القطرى
خلال السنوات العشر الماضية، اتضح بقوة حجم العلاقات بين قطر وتنظيم الإخوان في المنطقة، وحاولت الدوحة وأبناء حسن البنا- مؤسس الإخوان- اللعب واستغلال غضب الشارع العربى بعد احتجاجات ٢٠١١، بالإمساك في السلطة في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا بالإضافة إلى البحرين والأردن والصومال، المخطط القطرى الإخوانى والمدعوم من تركيا وإيران، استخدم ادوات عديدة من أجل الامساك بمصير الدول، عبر دعم الإخوان سياسيا واعلاميا وماديا، ولكن الأخطر كان عبر دعم الإخوان بالسلاح والمقاتلين، واستخدام الجماعات والمتشدد والإرهابية، في تثبيت الإخوان بهذه الدول، وتشكل ليبيا نموذج الذى استخدمت فيه كل الأدوات القطرية التركية الإخوانية في إمساك الجماعة والدوحة وأنقرة بخيوط السلطة في الدول العربية الكبيرة بشمال أفريقيا.
الدور القطرى منذ احتجاجات ١٧ فبراير ٢٠١١، وحتى الآن مستمر بوتيرة قوية، في دعم الإخوان، وبقائهم في السلطة رغم انقلاب الإخوان على الديمقراطية التى يتشدقون بها في آخر انتخابات تشريعية جرت في ليبيا، وأيضا الدعم المستمر بالسلاح والمال وإبقاء الصراع مشتعلا في الميدان الليبى، والإبقاء على ذلك لكن شكلت خط سرت الجفرة الأحمر الذى رسم الرئيس عبدالفتاح السيسي بعد انسحاب الجيش الوطنى الليبى من طرابس، السد المنيع أمام المخططات القطرية التركية في ليبيا، مما أجبر أدوات الدوحة وأنقرة على اتفاق جديد برعاية الأمم المتحدة أفضى إلى اختيار عبدالحميد الدبيبة رئيسا للحكومة الانتقالية ومحمد المنفى رئيسا للمجلس الرئاسى، وإسقاط أبرز حلفاء قطر وتركيا خالد المشرى وفايز السراج.
وقد لعبت قطر دورًا حيويًا في الأشهر الأولى الصاخبة من الربيع العربى. فدعمت الاحتجاجات والتظاهرات عبر شبكة الجزيرة الفضائية، ضد نظام القذافى، كما أنها عبأت الدعم العربى، لصالح التدخّل الدولى في ليبيا في مارس ٢٠١١، ودعم أمير قطر السابق حمد بن خليفة آل ثانى ورئيس الوزراء السابق حمد بن جاسم آل ثانى- قوى الإسلام السياسى الصاعدة في الدول التى تمرّ في مراحل انتقالية، فتولّى حمد بن جاسم حشد الدعم للقرار ١٩٧٣ الصادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، والقاضى بالسماح بإنشاء منطقة حظر جوى فوق ليبيا. وأوضح رئيس الوزراء أن «قطر ستساهم في العمل العسكرى إيمانًا منها بضرورة أن تكون هناك دول عربية تقوم بهذا العمل لأن الوضع في ليبيا لا يحتمل.
كما شاركت مقاتلات ميراج القطرية في الغارات الجوية التى شنّها حلف شمال الأطلسى «الناتو» ضد القدافى.
قطر استدعت أيضا قادة الإرهاب في الدوحة، فقد أنشأت قطر روابط وثيقة مع قادة اثنين من الجماعات الإرهابية الرئيسة هما القيادى بالجماعة الليبية المقاتلة «المرتبطة بتنظيم القاعدة» عبدالحكيم بلحاج من كتيبة طرابلس والإخوانى على الصلّابى، عاش على الصلابى في المنفى في قطر قبل ثورة العام ٢٠١١.
ومؤخرا كشف الخبير البريطانى في شئون الشرق الأوسط، «كريستيان كوتس أورليخسن»، في كتابه الصادر عن دار النشر التابعة لجامعة «أوكسفورد»، بعنوان «قطر والربيع العربى»، عن تحليله لانهيار الدور القطرى في ليبيا ودعم الجماعات الإرهابية، أوضح أورليخسن أن: «تدخل قطر العسكرى في ليبيا شمل أيضًا تقديم الدعم والتدريب لقوات المشاة، وتوفير أدوات ومعدات الاتصالات المتطورة للمقاتلين الليبيين، واعترافًا بفضل قطر، سارع المجلس الوطنى الانتقالى الليبى الذى تولى الحكم بعد سقوط القذافى، بتغيير اسم ميدان الجزائر في ليبيا إلى «ميدان قطر». وفيما بعد، قدر المسئولون الليبيون حجم الدعم العسكرى الذى قدمته قطر لإسقاط القذافى بـ٢٠ ألف طن من الأسلحة، موزعة على ١٨ شحنة تسليح على الأقل، إضافة إلى ملايين الدولارات في صورة مساعدات مباشرة، إلا أن خُمس هذه المساعدات فقط هى التى وجدت طريقها إلى ليبيا من خلال القنوات الرسمية التى أعلن عنها المجلس الوطنى، بينما تم توصيل الباقى إلى قطر من خلال الشبكات الإسلامية التابعة لعلى الصلابى، وفى أكتوبر ٢٠١١، نشرت صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية تقريرًا أكثر سوادًا يظهر مدى التورط العسكرى القطرى في ليبيا، كان التقرير يتناول اجتماعًا لقيادات الكتائب الليبية في طرابلس في ١١ سبتمبر من العام نفسه، بعد ٣ أسابيع من سقوط المدينة في أيدى الثوار المعارضين لنظام القذافى، اجتمع قادة الميليشيات الليبية المتفرقة بهدف التوصل لاجتماع لتشكيل جبهة موحدة تقضى على تمزق وتشتت قوتهم في مرحلة ما بعد القذافى، وبمجرد اقترابهم من الاتفاق على صيغة للوحدة، دخل رجلان، أحدهما هو رجل قطر في ليبيا عبدالحكيم بلحاج، واتهم قيادات الميليشيات الليبية بمحاولة استبعاده، ومن خلفه وقف رئيس الأركان القطرى حمد بن على العطية، الأمر الذى كان مفاجأة للجميع».
وفى يوليو من العام ٢٠١٩، كُشفت وثيقة مسربة تحمل تاريخ ٢٩ سبتمبر ٢٠١٣، صادرة من مكتب مساعد وزير الخارجية القطرى موجهة إلى رئيسه خالد العطية وزير الخارجية آنذاك، وتفيد بإتمام تحويل مبالغ مالية لأعضاء الجماعة الإرهابية في ليبيا بالصك رقم (٩٢٥٠٤٤٤)، إلى قيادات حزب العدالة والبناء الذراع السياسية لجماعة الإخوان الإرهابية في ليبيا، وتم سحب الصك من قبل محمد صوان رئيس حزب العدالة والبناء الغطاء السياسى للجماعة الإرهابية.
وتصاعد الدعم القطرى للجماعات الإرهابية والمتشددة في طرابلس، بعد تقدم الجيش الوطنى الليبى بقيادة المشير خليفة حفتر إلى العاصمة ومحاصرتها لأشهر عدة، فكان التنسيق القطرى التركى لانقاذ اخر ادواتهم في طرابلس من السقوط ومن ثم انتهاء الدور القطرى التركى الإخوانى في ليبيا وشمال أفريقيا.
ودعمت قطر ومولت عمليات وتحركات تركيا في ليبيا، وكذلك نقل مرتزقة سوريين من الجماعات الإرهابية والمتشددة الىى العاصمة طرابلس وهو ما يعد انتهاكا لقرارات الأمم المتحدة مجلس الأمن، ويوضح بقوة مدى الدعم القطرى للجماعات الإرهابية في ليبيا والمنطقة. كذلك أثار ظهور قائد القوات القطرية الخاصة حمد بن عبدالله بن فطيس المري، خلال أغسطس ٢٠٢٠، في ليبيا بعد اختفائه خلال السنوات الأخيرة عن الأنظار، جدلا واسعا بين الليبيين الذى عرفوه من خلال مشاركته في القتال إلى جانب الميليشيات ومسلحى جماعة الإخوان بعد الإطاحة بنظام الرئيس الليبى الراحل معمر القذافي، وعمل المرى مع بالحاج لتأسيس ما يعرف بـ «كتيبة ثوار ليبيا» التى أثارت الرعب بعنفها وبطشها في ليبيا.
ما تقوم به قطر رصدته المؤسسات الدولية، والأجهزة الاستخبارية العالمية، فقد أشار تقرير صادر مؤخرا عن «وكالة الأمم المتحدة للاجئين» إلى أن قطر ومنذ سقوط القذافى تركز على دعم جماعات الإسلام السياسى في طرابلس، ما يعزز من حالة الإرهاب الدولى العابر للدول، وربما القارات.
الدور القطرى المخرب في ليبيا لا يتوقف عند الإمدادات اللوجستية بالأسلحة والذخائر فقط، بل يمتد كذلك إلى نشر قوات قطرية على الأراضى الليبية، والسعى إلى بسط نفوذ جماعات ميليشياوية معروفة بعينها في عدة مناطق أبرزها معتيقة ومصراتة، لتكون نقاط مواجهة ومجابهة حال تحركت قوات الجيش الليبى بقيادة المشير حفتر. وحول الدور القطرى في تأجيج الصراع في ليبيا، أكد رئيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان عبدالمنعم الحر، أن أن الدور المشبوه الذى تمارسه الدوحة مناهض لقيام الدولة الوطنية في ليبيا ويدعم حركات الإسلام السياسى وعلى رأسها تنظيم الإخوان، لافتًا إلى أن تلك الحركات ترى في المؤسسات الوطنية بما فيها الجيش عبئا على منظومته الدولية.