تحل اليوم الذكرى الذكرى الـ 93 على ميلاد العالم الجغرافي الكبير جمال حمدان، والذي رحل عن عالمنا في 17 أبريل عام 1993.
يُعد حمدان من أعظم الجغرافيين، إذ تميز عن غيره بنظرته العبقرية للجغرافيا، فلم يكن يعتبر الجغرافيا على انها توضيح لتضاريس المدن وأبعادها، وإنما كان ينظر لها بمنحنى أخر، فكان يرى مع الجغرافيا الإنسان الذي يعتلى تلك الأرض وأثر هذا الإنسان على الجغرافيا، وهو ما يمكن اعتباره بانه كان دائمًا يرى جغرافيا المدن على أنها الجغرافيا البشرية والتي تؤثر وتتأثر بالإنسان الذي يعيش عليها.
وفي وصفه لمدينة القاهرة يقول حمدان:"القاهرة هي أم المدن جميعًا، هي تاريخ مفهم مجمد أو محفوظ، كل حجر فيه مشبع بعبق الماضي وعرقه، وكل شبر منها يحمل بصمات الإنسان، إنها كبيت جماعي كبير، وكمنطقة مبنية لا مثيل لكتلتها في مصر، عمل فني من مقياس ضخم مهندسه وساكنه هو المصري، وهذ بهذا أكثر أو أكثف رقعة من اللاندسكيب الحضاري في مصر"تبشيرًا" وحملا للطابع البشري، وبنفس الدرجة أبعدها عن ملامح الطبيعية الخام واللاندسكيب الطبيعي الغفل للوادي"
فهنا نجد أن حمدان لم يغفل في أن يذكر ويربط جغرفيا المكان بالإنسان الذي يعيش عليها والحضارة التي نشات ونمت على تلك العاصمة، والتي تُعد من أعظم عوالم العالم، فيقول حمدان عن الموقع الجغرافي للقاهرة: أنها تحتل موقعًا فريدًا في مصر، ففي إطار التقاء الدليتا بالعصيد في عقدة الوادي وصرته، موقع حتمي خالد ظلت العواصم تدور فيه، قد تنتقل من موضع إلى موضع، ولكنها لا تخرج عنه إلا في فترات عابرة في التاريخ القومي"، " فموقع القاهرة إذن هو خاصرة مصر، مجمع الوادي والفرعين، وملتقى الصحراوين، كأنما القُطر كله على ميعاد فيه، ولذا تحركت فيه العاصمة عبر العصور ولكن دون أن تخرج عن مجاله المغناطيسي" ونرى هنا أن حمدان قد قام بوصف العاصمة بلغة شعرية رشيقة تجعلك ترى جغرافيا المكان من مجرد وصف للكلمات التي حملت معها الأبعاد الجغرافية والزمانية والإنسانية في الوقت ذاته"
وإذا ما قلبنا في صفحات كتاب "جمال حمدان.. صفحات من أوراقه الخاصة"، نجد حالة نادرة من نفاذ البصيرة والقدرة الإستراتيجية على المستقبل، وهو الأمر الذي أكده في كتاباته إذ نجده قد تنبأ بإنهيار الاتحاد السوفيتي قبل إقرار قمة بروكسيل عام بخمسة عشر عامًا.
وتميز حمدان برؤيته الاستيراتيجية والتي كانت تقوم على أسس متكاملة للمقومات الكلية لكل تكوين جغرافي وبشرى وحضاري ورؤية للتكوينات وعوامل قوتها وضعفها، وهو لم يتوقف عند تحليل الأحداث فقط أو الظواهر الجزئية، وإنما سعى إلى وضعها في سياق أعم وأشمل وذو بعد مستقبلي أيضا.
ويعتبر "حمدان" من ضمن الكتاب القلائل الذين كانوا يرون المشروع الصهيوني في فلسطين على شكلة الحقيقي فنجده في كتابه "العالم الإسلامي المعاصر يقول:"غير أن الصهيونية إلى ذلك استعمار ديني طائفي بحث، ودولة إسرائيل دولة دينية يهودية تهويدية متعصبة تقوم على حشد وتجميع اليهود، واليهود فقط، في "جيتو" سياسي واحد أكبر، وهي إذا كانت تفرض ذلط بقانون الغاب، ومنطق القوة الرجعية الغاشمة في القرن العشرين، فإنها أيضًا تُعيد إلى الحياة فلسفة الدولة الدينية التي تُعد من حفريات العصور الوسطى بل عصور القبلية المتحجرة القديمة والتي لا يعرفها أو يعترف بها قالرن العشرون، إسرائيل تأتي، بتعبير مباشر، "كغزوة مقدسة":" إنها تفرض من طرف واحد "حربًا دينية" ليس الطرف الآخر مسئولا عنها أو عن إثارتها أو طبيعتها، وتبعث بذلك شبهة صليبيات جديدة في العالم الإسلامي الذي لم يعرف سوى التسامح الديني تقليديا".
ويضيف:"بل إن الصهيونيات أسوأ استغلاليا فقط تخفى وراء الصليب، أما الصهيونيات التي تتخفى وراء النجمة السداسية فاستعمار استيطاني استهدف اقتلاع وتصفية الشعب الأصلي تصفيه جسدية ويعمل على تهويد الأرض وتغيير طبيعتها ومعالمها إلى الأبد".
ولعل تلك الكلمات لحمدان كانت وراء خروج بعض التكهنات بأنه ربما تكون إسرائيل وراء مقتل حمدان، والذي عثر على جثته والنصف الأسفل منها محروقًا، ولكن تقارير المعمل الجنائي قد أثبتت أن حمدان لم يمت بسبب الحريق أو إثر اختناقه بالغاز، كما أنه تم اكتشاف اختفاء العديد من مسودات بعض الكتب والأوراق الخاصة به، والتي كان بصدد الانتهاء من تأليفها ومنها كتابة عن اليهودية والصهيونية، وكتاب "العالم الإسلامي المعاصر"، وكتاب عن "علم الجغرافيا".. وغيرها
وهو الأمر الذي فجره وأكد عليه رئيس المخابرات السابق أمين هويدي حول الكيفية التي مات بها جمال حمدان، وأكد هويدي أن لديه ما يثبت أن الموساد الإسرائيلي هو الذي قتل حمدان، لاسيما بعد اختفاء مسودات الكتب التي كانت تتحدث عن اليهود.
وترك جمال حمدان 39 كتاب و79 بحث ومقالة، أشهرها كتاب شخصية مصر دراسة في عبقرية المكان، ومات ولم يتزوج، ومنها دراسات في العالم العربي،، وأنماط من البيئات، ودراسة في جغرافيا المدن، والمدينة العربية، وبترول العرب، والاستعمار والتحرير في العالم العربي، واليهود أنثروبولوجيا، وشخصية مصر، وإستراتيجية اللاستعمار والتحرير، ومقدمة كتاب القاهرة لديزموند ستيوارت، ترجمة يحيى حقي، والعالم الإسلامي المعاصر، وموسوعة شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان 4 أجزاء.
