الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

أزمة علم الطبيعة «2–2»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
هناك حالات لا يستطيع المرء أن يكون فيها على يقين من أن تدخل العلماء في اتخاذ القرارات الكبرى المتعلقة بمصير المجتمع لا بد أن يكون خيرًا على الدوام. وهناك دول تولى علماؤها وخبراؤها ثقة زائدة، وتوكل إليهم أمورها. فالولايات المتحدة الأمريكية مثلًا - كانت أول دولة استحدثت وظيفة مستشار علمى للرئيس، كما أنها تقوم بتعيين ملحق علمى للعديد من المهام الدبلوماسية حول العالَم، فضلًا عن لجنة المستشارين الخاصة بالرئيس والتى تضم نخبة من كبار العلماء في كل التخصصات من داخل الحكومة وخارجها. زمن الملاحظ أن الغالبية العظمى من دول العالم أصبحت تحذو حذو الولايات المتحدة في هذا الشأن.
إن استعانة السياسيين بالعلماء في عصرنا الحاضر أدت إلى الحملة على ما يسمى بـ«التكنوقراطية». ولفظ «التكنوقراطية» يعبر عن نوع من أنواع الحكم، كالديمقراطية، التى تعنى حكومة الشعب أو الأغلبية، والأرستقراطية، التى تعنى حكومة الأقلية، أما التكنوقراطية فهى حكومة الفنيين الإخصائيين، أو هى بمعنى أوسع سيطرة هؤلاء الفنيين وتحكمهم في اتخاذ القرارات الكبرى في المجتمع. هذا النوع من السيطرة ثبت بالتجربة أنه لم يكن خيرًا على الدوام.
ذلك لأنه قد تبين أن هذا التكنوقراطى، الذى هو في الأغلب عالِم متخصص، أو خبير ذو تجربة واسعة، ينظر إلى الأمور بمنظور أضيق مما ينبغى، ينحصر في إطار اختصاصه وحده. وقد يكون ذلك مفيدًا، بل هو بلا شك ضرورى في المسائل المتخصصة التى لا تمس إلا نطاقًا ضيقًا من مصالح الناس، أما في المسائل المصيرية، المتعلقة بمصالح المجتمع ككل، فإننا كثيرًا ما نجد التكنوقراطيين عاجزين عن تأمل الأمور من منظور شامل، لأن مهمتهم تغلب عليهم، ونظرتهم العلمية المتخصصة تحجب عنهم رؤية الحقائق الكبرى للمجتمع العريض. ومن هنا فإن هؤلاء التكنوقراطيين كثيرًا ما يتخذون قرارات ضيقة الأفق، وكثيرًا ما يجد المجتمع نفسه مضطرًا للاستعانة بـ«السياسيين» غير المتخصصين، لكى يصلحوا ما أفسده العلماء الحاكمون، ولكنه يتميز عنهم، على الأقل، بشمول النظرة، وبالإحساس بنبض الجماهير ومعرفة وقع القرارات الحاسمة عليها.
وبطبيعة الحال فإن الوضع الأمثل هو أن يكون العالِم ذا وعى سياسى في الوقت نفسه. وهذا أمر يتحقق بالفعل لدى عدد من العلماء الكبار الذين يفخر بهم عصرنا هذا، والذين لم يمنعهم عملهم العلمى الشاق، وانهماكهم في كشوفهم الحاسمة، من أن يمتدوا بنظرتهم بحيث تتسع لمشكلات العالِم الكبرى، وتدرك وضع الإنسان في المجتمع المعاصر، وتنفذ إلى الأسباب العميقة للأزمات التى يعانيها، وإلى الحلول الفعالة لهذه الأزمات. ولكن أمثال هؤلاء العلماء قلة، والغالبية الساحقة تنشغل بعملها العلمى إلى الحد الذى يحجب عنها رؤية كثير من حقائق العالَم المحيط به. ومن الصعب أن يعيب المرء على هذه الغالبية قصور نظرتها في الأمور المتعلقة بالسياسية والأوضاع الاجتماعية ومشكلات الإنسان، إذ إن العمل العلمى يزداد تعقيدًا على الدوام، ومن الطبيعى أن يكون في المشكلات المهنية الخاصة ما يشغل العالِم بما فيه الكفاية. ومع ذلك كله فإن العالِم في عصرنا الحاضر ينبغى أن يكون لديه حد أدنى من الوعى بالنتائج المترتبة على عمله العلمى، وهذا يرجع إلى أن طبيعة العلم ذاتها قد أصبحت تقتضى ذلك. فحين تتغير وظيفة العلم، من نشاط لا يؤثر إلا تأثيرًا محدودًا، إلى نشاط مصيرى يمتد تأثيره إلى كل جوانب الحياة البشرية، يكون من الطبيعى أن تتغير نظرة المشتغل به، من الإطار المهنى الضيق، إلى الميدان الإنسانى الشامل.
يبقى من الثابت أن توجيه العلم نحو خدمة الأغراض العسكرية وبالصورة الصريحة والمباشرة التى يتسم بها هذا الوضع خلال المرحلة المعاصرة، لم يعد يترك أى مجال للحديث عن حياد العلم واستقلاله عما يدور في ساحة الصراعات الأيديولوجية. ومن هذه الزاوية يمكن القول بأنه مهما أمعن رجال العلم في تأكيد حرصهم على تحصين أبحاثهم من شبهة التأثر بمدخلات الخيار الإيديولوجى، فإن هذا الخيار أصبح يفرض نفسه كإطار يحدد للبحث العلمى سقف إمكاناته وسلم أولوياته، وهو ما يمكن تتبع تجلياته الملموسة من خلال رصد الترابطات الوثيقة التى أصبحت تنظم العلاقة بين التجمعات العلمية وبين أجهزة ومؤسسات السلطة السياسية.