الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

البركة ظل الله على خلقه

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كثيرون من البشر يلتمسون البركة من الله تعالى، فهى كما قيل عنها "إذا حلت فى قليل كثرته، وإذا حلت في كثير نفع..وكلمة بركة ليست مقصورة على العرب أو المسلمين، فهى بمفهومها ومنطوقها موجودة فى لغات عديدة وتحمل نفس الاسم.. وهو ما دفع المخرج الأمريكى رون فريك إلى تسمية فيلمه الممتع والمتميز بركة 
"Braka" والذى قد يندرج تحت بند الأفلام الوثائقية، رغم تميزه وإختلافه عن الشكل الوثائقى التقليدى.. وقد يصنف ضمن السينما التجريدية، فهو يعتمد كليا طوال مدة عرضه (ساعة وستة وثلاثون دقيقة) على الصورة والموسيقى والمؤثرات الصوتية فقط، دون استخدام حوار أو مشاهد تقليدية أو حبكة درامية.. ورغم ذلك يصل لأقصى حدود المتعة والفائدة، ويثير داخل المشاهد تساؤلات كثيرة، ويدفعه للتفكير فى عمق الرسالة.. ورغم أن الفيلم إنتاج 1992، إلا أننى شاهدته مؤخرا على اليوتيوب، واستشعرت خلال مدة عرضه وكأننى فى جلسة تأمل أو يوجا، وقد ترتقى فى بعض اللحظات إلى العبادة!.. فقد تفنن المخرج فى عرض صور ومشاهد تجعلنا نقشعر أمام قدرة وإبداع الخالق.. وجعلنا نرى الخلق ونرى أنفسنا بنظرة بانورامية، وكأننا نشاهد مكانا آخر من عالم آخر.. فاستطاع أن يعبر عن الإنسان بتحضره وبدائيته، والمجتمعات برقيها وتخلفها، والطبيعة بهدوئها وغضبها.. واستعرض الفيلم منذ بدايته العبادات والطقوس فى الأديان السماوية وغير السماوية، والوجوه الخاشعة التى تشكو ضعفها وتلقى بحمولها وتحاول إلتماس الرضا والبركة، فالجميع بإختلاف المعتقدات والثقافات والبيئة تستشعر قوى الخالق، حتى وإن ضلت الطريق.. وقام بالتركيز على الطقوس التى تبدو غريبة، والتعبد من خلال الرقص بداية من الديانات الوثنية لدى بعض الشعوب الاسيوية التى تؤدى طقوس تبدو مضحكة وكأنها محاكاة للقرود، والطقوس المتنوعة التى يمارسها البوذيون، وطقوس بعض القبائل الأفريقية البدائية التى تشعرنا بالعودة للعصر الحجري.. كذلك "المولوية" والتى يطلق عليها رقصة العشق الإلهي عند إحدى الطرق الصوفية التى أسسها الشيخ جلال الدين الرومى.. استطاع الفيلم ببراعة لمس أوجه التشابه بين البشر باختلاف أشكالهم وانتماءاتهم ليشعر المتفرج أن الناس سواسية وأن الله خلق هذا الكون ليسع الجميع وينعمون ببركة الله تعالى..فالإنسان هو الإنسان فى كل مكان وزمان بفطرته التى فطرها الله للبشر من قبل مولدهم، وبكل التناقضات داخل النفس البشرية، وبتعلقه روحيا بقوى عظمى قاهرة وخفية يستشعرها حتى وإن لم يدركها.. لم يقتصر الفيلم على عرض الرباط الإنساني بين البشر وببعضهم البعض فى كل مكان، بل لمس بحساسية شديدة الرباط بين جميع الخلق، فمثلا استعرض في مشاهد متتالية البشر وهم يتدافعون فى الشوارع والقطارات، ثم ينتقل بسلاسة لنفس شكل التدافع ولكن لكتاكيت فى ماكينات معينة فى إحدى المصانع، وكأنه يرينا دوامة الحياة التى تغمر الجميع بلا تفرقة..ويعرض في مشهد آخر منطقة لجمع القمامة يتناثر فيها الناس والاغنام والخنازير كما تتناثر القمامة، ومشاهد أخرى يبدو فيها كفاح البشر وهم يبذلون أكثر من طاقتهم، ثم ينتقل إلى مشهد آخر لحمارين يجرون أكواما طائلة من القمامة، ويبدو من تباطؤ سيرهم وثنيات سيقانهم حملهم لما لا طاقة لهم به..يرينا أيدى عاملة وأخرى عاطلة، ووجوه بائسة وأخرى مخيفة، وأطفال من بلدان مختلفة ينظرون نفس النظرة التى يبدو منها الأسى والحرمان.. ومشاهد لأناس كثيرة لا نعرف من أين هم، ولكنهم يحملون نفس الهموم.. ومناطق لا نعرف أين هي في أوطاننا، وقد لا نميزها إلا بما تحمله وجوه ساكنيها من سمات.. فرغم أن الفيلم تم تصويره بين 6 قارات، إلا أنه أذاب الفوارق بينها، وأشعرنا بعمق الرابط الإنساني.. وخلال ساعة ونصف من الزمن إتتقل بنا إلى 152 موقع التصوير فى 24 دولة هم: الأرجتين، أستراليا، برازيل، كمبوديا، الصين، أكوادور، مصر، فرنسا، هونغ كونغ، الهند، اندونسيا، ايران، ايطاليا، اليابان، كينيا، الكويت، نيبال، بولندا، السعودية، تانزانيا، تايلند، تركيا، الولايات المتحدة الأمريكية، والقدس..واستعرض المسجد الأقصى وكنيسة القيامة وحائط المبكى، وتعبد المسلمين والمسيحيين واليهود في المدينة المقدسة عند الأديان السماوية الثلاث.. وكأنه أراد أن يبعث برسالة سلام تؤكد حق الجميع على السواء، ولعل رسالة الفيلم تصل لمن طغت وحشيتهم على إنسانيتهم، وما زالوا يحاولون نزع الأوطان من أبنائها حتى يصبح الوطن حكرا لهم.