الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

اكتشاف غير علمي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
في قصته القصيرة (رسالة إلى جارى العالم)، يتهكَّم أنطون تيشخوف من الاكتشافات العلمية العقيمة التى لا تقدم نفعًا، أو تلك التى لا تستند إلى أسس متينة، ويطلق عليها أصحابها اسم اكتشافات، وما هى إلا فرقعات أو خزعبلات.. بالمناسبة فإنى مولع بالأدب الروسى، وعلى نحو خاص أفضِّل كاتبه الأشهر أنطون تشيخوف.
تشيخوف في قصته تلك استطاع أن يُفنِّد ـ من بين ما فنَّد ـ بعبقرية وسهولة أسطورة أن الإنسان أصله قرد، واسمحوا لى أن أسميها أسطورة؛ لأنها يمكنها فقط أن تنعش الخيال، ولا يمكنها أن تقنع العقل، يمكنها أن تصبح خرافة يتناقلها الناس، ولا يمكنها أن تصبح حقيقة علمية ترتكن إلى براهين دامغة.
وأنا هنا حينما أبرز ما قاله تيشخوف في هذا الخصوص، فإننى أقصد التنويه بدور الأدب المهم في تناول القضايا الفكرية، رغم أن ما قاله تشيخوف قد يبدو للبعض كلامًا عاديًّا الآن بعد تطور النظريات العلمية، وإثبات عدم صدق نظرية دارون حول أصل الإنسان، ولكنه لم يكن عاديًّا بحال من الأحوال منذ ما يقرب من قرن ونصف من الزمان.
يقول تشيخوف بطبيعته الساخرة: (إنكم فيما يبدو ألفتم مؤلفًا، فتفضلتم بأن عرضتم فيه أفكارًا غير جوهرية بالمرة، بخصوص البشر ونشأتهم الأولى وكينونتهم قبل الطوفان، وتفضلتم بأن ألفتم أن الإنسان هو من نسل قبائل القرود والنسانيس... سامحوني أنا العجوز، فإنني لست متفقًا معكم بخصوص هذه النقطة المهمة، وبوسعى أن أضع أمامكم عقدة.
فلو أن الإنسان، سيد العالم، أذكي المخلوقات المتنفسة، جاء في الأصل من قرد غبى جاهل، لكان لديه ذيل وصوت متوحش. ولو أننا جئنا في الأصل من القردة، لكان الغجر يسوقوننا الآن في المدن للفرجة، ولدفعنا نقودًا مقابل الفرجة على بعضنا البعض ونحن نرقص بأمر الغجرى، أو نجلس خلف القضبان في حديقة الحيوان. وهل يغطى الشعر أجسامنا كلها؟ ألا نرتدى الثياب التى ليست لدى القرود؟ وهل كنا نحب المرأة ولا نحتقرها لو فاحت منها ولو قليلًا رائحة القردة... ولو أن أسلافنا كانوا من نسل القرود لما دفنوا في المقابر المسيحية...
فلتعذرونى أنا الجاهل لتدخلى في شئونكم العلمية، وحديثى بطريقتى بأسلوب العجائز، وفرضى عليكم أفكارى المشوهة والفظة، التى تكون لدى العلماء والقوم المتحضرين في مكان أقرب إلى البطن منه إلى الرأس. ولكني لا أقوى على الصمت ولا على الصبر عندما يفكر العلماء تفكيرًا خاطئًا في عقولهم ولا يمكنني إلا أن أعارضكم).
بالطبع يا أنطون هو تفكير خاطئ ويستحق المعارضة؛ فالإنسان مخلوق مميز، خلقه الله في أحسن صورة، وكرمه على كافة مخلوقاته، وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء: 70].
وإذا كنا نرفض القول بأن الإنسان ينحدر من سلالة القرود تكريمًا له، فإننا نرفض كذلك التمييز بين إنسان وآخر على أساس الجنس؛ فلقد ظهرت عدة نظريات حاول أصحابها تصنيف البشر إلى أجناس بناء على خصائصهم الجسدية، ولكن معظم العلماء نبذوا هذه النظريات بعدما ثبت لهم أنها لا تقوم على أساس علمى ولا تحقق غرضًا مفيدًا، وأن ما بين البشر من فروق جسدية نشأ نتيجة عوامل بيئية وطفرات جينية، وأن كل الدلائل العلمية تؤكد الأصل المشترك للبشر جميعًا.
ولقد استُغلت نظريات تقسيم البشر إلى أجناس في التمييز بينهم وفى القول بأفضلية جنس عن آخر، وهذا كلام غير سليم، فالإنسان هو الإنسان في كل زمان ومكان، ولا يمكن أبدًا أن يكون أحدهم أفضل من الآخر لمجرد اختلاف اللون، أو الشكل، أو مكان الميلاد، فالله سبحانه وتعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13].
قد يبدو أن كل ما ذكرته في هذا المقال بديهى، وأنه من مكرور الكلام، ولكنه كذلك لدى أصحاب العقول السليمة والفطرة السوية، وليس كذلك بالنسبة إلى غيرهم!