الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

د. يسري عبدالله يكتب: جمال القصاص.. عمر من الشعر

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
بدت التجربة الشعرية لجمال القصاص منفتحة على أسئلة مختلفة، تخص الشعر والحياة معا، تسد الفراغ المصطنع للحد الفاصل بينهما، فتحمل معها وعيها الجمالي ابن التجربة الحياتية المحضة، والمجاز الآسر، وتتمركز في بنية الشعر المصري بوصفها تعبيرا عن نفس مختلف، وصوت بدا طليعيا منذ" خصام الوردة" ديوانه الأول 1984، ووصولا إلى ديوانه الصادر حديثا "تحت جناحي عصفور" ( دار ميريت 2020)، فخلق بصمته الأسلوبية الخاصة منذ البداية، وصيغه الرائقة، وحسه الجمالي الذي لا يعرف صخبا زائفا، وإن حوى توترات داخلية مكتومة طيلة الوقت، تحيل النص إلى حال من السؤال المتجدد، والمفتوح على قسوة الحياة، وألمها، وأشواقها المكسوة بالأسى والانكسار.
يمتلك جمال القصاص مشروعا شعريا يخصه، ابن عالمه وطرائقه الفنية، وخياره الجمالي، وبدا انحيازه في دواوينه الأخيرة إلى قصيدة النثر انحيازا إلى أفق جديد، مسكون بالمجاوزة والتخطي لا السكونية والثبات، وبدت نصوصه جميعها مشكلة لجدارية بديعة في متن الشعر المصري تؤسس لتلك المتعة الفنية الخالصة، غاية الكتابة ومرادها وفعلها المدهش في المتلقي.
يكتب القصاص نصا ممتدا، يستقي عوالمه من الحياة ذاتها، ويجعل مادته الخام من حكايات ناسه وشخوصه، وذواته المختلفين، والتي ترتبط دوما بجدل خلاق مع الذات الشاعرة، فتصبح ونسها وألفتها، وإخفاقاتها وعذاباتها اليومية أيضا، ومجلاها العصي على الموت/ العصي على النسيان. 
إن آليات اللعب بمعناه الجمالي وإطاره الفلسفي، وميكانيزمات اللايقين، وجدل الخبرتين المعرفية والجمالية، وتراسل الفنون داخل النص الواحد جميعها تقنيات مركزية للنص المفتوح الذي يكتبه جمال القصاص.

الأثر المفتوح
منذ أن كرس إمبرتو إيكو في كتابه المهم " الأثر المفتوح" لمفهومي النص المفتوح والنص المغلق، ومنذ طروحات رولان بارت المتجددة على الدوام والتي تختص تحديدا بمفهومي النص المكتوب - في مقابل- النص المقروء، وبدا ثمة حضور واعد لمصطلح النص المفتوح في بيئة النقد في العالم، وإذا كانت رهانات التنظير للمصطلح قد تسربت إلى الثقافة العربية وفعلها النقدي فإن رهانات الفعل الشعري نطمح أن تكون مصبوغة بطابع البحث عن خصوصية جمالية عربية تنتقل بالقصيدة من تبعيتها الذهنية واستلابها الجمالي صوب أفق يخصها، هذه الخصوصية التي بدأت قصيدة النثر في تلمس ملامحها والتي يمكن النفاذ إلى بعض منها حال استقراء بعض نصوصنا العربية الجديدة.
إن النص بوصفه إدراكا جماليا للعالم بالأساس، سيبدو حاملا داخله إمكانات لا نهائية تتعدد بتعدد جمهرة المتلقين له، من جهة، وبفعل القراءة نفسه بوصفه استجابة جمالية بالأساس، وتعبيرا عن جملة من الحاجات النفسية والاجتماعية، هنا وعبر هذا الفهم يصبح "الأثر المفتوح" أثرا متجددا على الدوام ليس بتجدد الدلالة وحدها، ولا بتجدد التأويل ذاته، ولكن بتجدد الفعل القرائي، بوصفه مجلى لمشاركة فاعلة من المتلقي في إنتاج المعنى الذي يحويه النص الشعري، وربما تتماس مع هذه الفكرة أيضا فكرة الأثر النفسي الذي يحققه الأسلوب الذي ليس هنا زخرفا بلاغيا ولا حتى هو كل شيء في عمومية تغفل الجوهر، لكنه يبدو هنا بمثابة قوة تملك حساسية ضاغطة على سيكولوجية المتلقي.


ملامح وتقنيات
يؤنسن جمال القصاص الأيديولوجيا، ويبدو التعبير الجمالي أقل صخبا لديه في التعاطي مع فواجع إنسانية، ومآسي كبرى، فتزيد مساحة الشعر وتقل مساحة الأيديولوجيا، وتتواتر مساحات الجمالي/ الفني، وتنحسر مساحات الأيديولوجي/ السياسي، فكانت وردته إلى عمر بائع البطاطا الصغير، في قصيدته" وردة إلى فتى البطاطا"، حيث يجيل القصاص الحكاية الواقعية إلى نسق جمالي، وينطلق منها بوصفها مادة خاما، ليتجاوزها، لكنه لا يتخلي أبدا عن مأساويتها، وبساطة صاحبها الآسرة.
وتحضر الإيروتيكا دوما في نصه، بوصفها بنتا أصيلا لعالم يعد فيه الجسد مركز ثقل، وعبر علاقته الشفيفة بالروح يتأسس مخيال جديد يتداخل فيه المجازي مع الواقعي، فيصبح النهد قمرا محبوكا في سوتيان، وينهض عالم يتكيء في بنيته على الإحالة والرمز، يعد ظلا موازيا لعالم قائم ومستقر:" سيدي/ ليس بمضرب الذباب/ ولا بكوب الينسون/ تختبرين نداوة الإفريز/ كبرت الشرفة/ والقميص لم يجف/ القمر المحبوك في صرة السوتيان/ أطلقيه/ علميه كيف يصطاد السمك/ كيف يصنع الطعم".
ثمة نزوع درامي في نصوص جمال القصاص أيضا، ومحاولة بديعة لتخليق صور كلية الطابع، تضع قدما في الواقع، وأخرى في المجاز، ويعد الحلم هنا إحدى التقنيات المركزية التي يعتمدها في نصه، وحين تتواتر الصور لديه فإنها لا تنحو صوب التجريد، لكنها تتنسم دوما عبق الحياة وعنفوانها، واشتهائها الذي لا ينتهي، حتى لو انفتح النص على إحالة تاريخية" كولمبس على الحافة"، أو كان غارقا في نهم الأخيلة" من أعلى بمحاذاة الموسيقى"، تظل رؤية العالم لدى الشاعر المجيد جمال القصاص مسكونة بأمل مستمر، وجواب لا يعرف اليقين: تلك هي الحياة/ ليس لديّ قرارٌ / أو جواب/ لكنني سوف أنتظرك هنا / بشَعري المجعد/ بطائراتي الورقية / بأحرفي المفروطة من تلقاء نفسها". 
ثمة روح متمردة، وذات شعرية راغبة في الفرار، في الخروج من الشعر والحياة معا، من أسر مواضعات قديمة، حتى لوارتدت إلى طفولة نزقة، ومتجددة:"أنا طفلك الشهيُّ / على طول هذا الرصيف/ لم أنتظرْ أي دور/ سوى دفتر الريح".



تمجيد الجمالي وتخييل المعرفي
وفي ديوانه "جدار أزرق"، يحمل جمال القصاص قصيدته فوق ظهره ويمضي، لا يلوي على شيء، ولا يعبأ بشيء سوى الجمال والحرية:" معذرة أيها الحارس/ لا تسألني من أين يولد النهر/ لست سبورة الغيم/ لست الشمس/ بالكاد أحمل قصيدتي فوق ظهري وأمضي". ( ص 262).
يحيل عنوان الديوان" جدار أزرق" إلى عالم الحوائط الشخصية في فيس بوك، ويبدو الدالان المكونان لبنية العنوان موسعين للمعنى، فاتحين لأفق الدلالة، ليصبح جدار الشاعر هنا نابضا بالحياة، وليس حائطا أصم، فتتسق حيويته مع زرقته الدالة على الصفاء والحساسية الشديدة، حيث ينتمي اللون الأزرق إلى مجموعة الألوان الباردة، كما تبدو إحالاته الشعورية نافذة بعمق صوب الروح.
ويتكيء "جدار أزرق" على هذا الجدل الخلاق بين المجمل والمفصل، المتن والتنويعات، وتتسع الرؤية الشعرية بتعدد المقاطع وتنوعها الخلاق، فكل مقطع يمنح الرؤية الشعرية بعدا جديدا، وبما يشكل جدارية القصيدة / جدارية النص.
في "لست مطمئنا لشيء" ليس ثمة سمات خارقة يسبغها الشاعر على الذات الشاعرة، ومن ثم يتخلص من حمولات المجانية، غير أنه يقدم عالما مدهشا تختلط فيه الأسطورة بالواقع، بدءا من الاستهلال الشعري: "لا أعرف نساء دلفي، ولا حاملات القرابين في وادي الملوك، لم تسقط واحدة منهن في حجري، الماء لم يكن طازجا وهن يعزفن للشيطان حتى يصب النبيذ دفعة واحدة، وينام خلف الأريكة".( ص7)، ثم تبدو الذات الشاعرة الممسوسة بعقدة الفيضان، مسكونة في الأساس بروح مصرية خالصة، توظف المجاز جيدا وبلا افتعال: "لن أنتظر أن تهذب هذه الساعة شاربها الأخرق/ أو تبول على نفسها".(ص8)، كما يصنع الشاعر صورا بصرية متواترة، تعتمد في جانب منها على حكمة مكتنزة، وهي ليست الحكمة بمعناها الكلاسيكي، بل هناك نسق تتجادل فيه الخبرتان الجمالية والمعرفية فتنتجان القصيدة التي تصبح استجابة جمالية ومعرفية لذات تقاوم القبح بالجمال، والكراهية بالمحبة، وترى في الجسد درجا للروح، وفي الروح خلاصا وارتقاء. إنها ذات شعرية يمكن تلمس ملامحها السيكولوجية، حيث تنشد عالما بلا حروب، بلا ادعاءات، أما معجمها الشعري فتتواتر فيه مفردات دالة وكاشفة عن روح تحتفي بما هو إنساني وحر ونبيل، هنا يجد المتلقي دوالا مثل:"الأطفال/ الحرب/ المدرسة/ الحليب/ الأم". ويتوزع حضور الإشارة إلى اسم الشاعر ذاته في الديوان عبر أكثر من نص، وبصيغ متعددة، فتارة يأتي "جمال القصاص"، وتارة أخرى يأتي "ابن القصاص" تبعا للمسار الشعري للقصيدة.
وعبر جدل الخبرتين المعرفية والجمالية تتحقق عناصر الإدهاش في قصيدة جمال القصاص، التي تنحو صوب كسر أفق التوقع لدى قارئها، من قبيل "معنى أن تعبر النهر وحدك/ أن تقيسه بمساحات المطر/.."( ص 8). 
في "أن تعبر النهر وحدك"، ثمة أنسنة لمعنى القصيدة، بلا معاظلات وأسئلة مجانية عن الشعر وجدواه، فالشاعر هنا يبعد ببون شاسع عن خطى الدجال، وتتواتر الصور الشعرية بتنويعاتها البيانية والبصرية والمركبة، حيث يتعاطى الشاعر هنا مع مفهوم الصورة الشعرية بوصفها مجلى للعالم، كونا قابلا للتأويل، وليس محض أدوات تقنية وبلاغية تتأسس عليها القصيدة.
يبني جمال القصاص نصه على مجموعة من التقنيات اللافتة من بينها آلية البناء على المفردة، حيث يخلق صورة مركبة من عناصر مختلفة اعتمادا على دال بعينه، وبما يفضي إلى اتساع المعنى، وانفتاح مدارات التأويل لنص متجدد باستمرار.
للنحت اللغوي حضور بارز، وبما يتسق مع معجمه الشعري شديد الخصوصية، والذي تتجاور فيه لغتان إحداهما لغة كلاسية سامقة، ابنة المجاز المحلق، والأخرى لغة تداولية تستمد جماليتها من السياق الشعري الذي توضع فيه، فتكتسب معنى جديدا، ويصبح هذا العادي أداة للتخييل الشعري:"الساعة الحائطية مهذبة على غير العادة/ عقرباها أحس أنهما يطبطبان على كتفي/ يعتذران عن خطأ ما". 
تهيمن بنية السؤال على نص "الفتاة الهزيلة المنمقة"، ويبتعد النص عن التقرير والتنبؤ، فكل شيء محض سؤال، والتغير سمة حياتية تصيب كل شيء، حتى العلاقات الإنسانية.
ثمة حضور في ديوان "جدار أزرق" على مستوى البنية الشعرية لمقلوب الشكل الذي قدمه الشاعر في ديوانه "السحابة التي في المرآة"، كما نجد أيضا إحالة إلى ديوانه "نساء الشرفات"، حيث نسوة الشاعر اللاتي يطلعن من الشرفات يعضضن أظافرهن!.
يتجاور في "جدار أزرق" نيتشة وسقراط وهيراقليطس، فينفتح النص على المعرفي بلا افتعال، وبلا إحالات مجانية، ففي "أجرب عبودية أخرى" يحضر نيتشة بوصفه علامة على نسبية العالم، ومن ثم يمثل استدعاءه في النص ضربا للأبنية الجاهزة التي ثار عليها الشاعر في نصه: "الحياة فكرة لا متناهية الصغر/ لا متناهية الكبر/ في شقوقها أكتشف عورة المطلق/ أجعل نيتشة يمشي حافيا فوق شوارب المنهج/ هذا لا يمنع أنه فيلسوفي الأمهر/ باسمه يمكنني أن أمنح هيدجر بداهة السقوط".( ص103). وتتسرب الإحالات المعرفية هنا على نحو دال وغير متعاظل، فتشير إلى الفكرة الجوهرية لدى صاحبها. ويستخدم الشاعر جملا شعرية دالة للتعبير عما يريده ولفتح أفق الدلالة ( عورة المطلق/ حافة السقوط)، فليس مطلوبا منه مثلا أن يحكي قصة هايدجر، أو معنى الوجود الأصيل والوجود الزائف لديه، لكن يجعل المعرفي في متن الجمالي. 
وبعد.. عن قسوة الحياة ومأساويتها، عن تعقدها اللانهائي، عن خيباتنا وهزائمنا، مسراتنا القليلة، وبهجاتنا الخاطفة، عن عالم يقف في قلب الكراهية، تقاوم قبحه ووجوده الزائف، متكئة على روافد جمالية متعددة وتصورات فكرية تتجدد بتجدد الشعر واتساع العالم، تحضر شعرية جمال القصاص في متن الشعرية العربية أصيلة وفريدة في آن.

المرأة وألق الحضور
في ( الإسكندرية رباعية شعرية) ثمة روح تجدل بين الذات والعالم، تتعاطى مع الإسكندرية المكان والذاكرة، التاريخ والامتداد، عبر ما أسميه بتحولات المكان/ تحولات البشر. كانت الذات مركزا للعالم في القسم الأول ولم تزل، ثم يعقبه تطواف لمناح أخرى، تتسع معها رؤية الديوان.
وللمرأة حضور مختلف في نصوص جمال القصاص، ونساؤه باتساع الشرفات، التي تعني في جوهرها خلاصا وتوقا لحرية أشد، وتأتي صورهن تترى في شعره، فتجدهن أحيانا تعبيرا عن نساء مكلومات، يبحثن عن حياة ليست كالحياة، وعن عالم ينتظرهن أكثر حرية، ومواعدة، ويتواتر حضورهن في نصوصه بوصفهن ذاتا وموضوعا في آن، وسيلة وغاية، حبا وكرامة، نشدانا لعالم افتقر جدارته الإنسانية تحت سطوة القتل والتدمير وسحق البشر عبر آلة الحياة الجهنمية.