الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

إبداعات البوابة.."الزبد الذهبي" قصة قصيرة لـ«أمنية نجيب»

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كان يعلم كم تغتاظ زوجته حين يدلف إلى المطبخ كي يصنع الطعام الذي يحبه، كان يظن أنها تلك حال معظم النساء، فأمه كانت تستعجل أباه للخروج من المطبخ أثناء انشغالها فيه. كان يرى المطبخ مملكة النساء الخاصة، حدودها من نار، وشظايا زيت مغلي. ولكن كان مطبخ زوجته يختلف عن مطبخ أمه الصغير، الذي كان بدولابين خشبيين، وبوتاجاز أبيض مربع الشكل، بأربعة عيون ضيقة، تتدفق منه أطيب الروائح لأشهى المأكولات. أما مطبخ زوجته، فدخانه خال من رائحة التوابل والسمن الذائب. كانت من أنصار الطعام الصحي، خفيف الملح والدهن. وازداد الوضع سوءا عندما تذكره جين مرض السكر منذ خمس سنوات بعد أن أتم عامه الخامسة والخمسين، وبالطبع لم يأت دون رفيقه الضغط. فأصبح الطعام الصحي بأمرين، زوجته والطبيب.
وفي هذا الصباح، ذهبت زوجته لزيارة إحدى صديقاتها، وتلك كانت فرصته لطهي أكلة شهية كانت أمه تعدها له خصيصا حين يتملكه الحزن أو التفكير في أمر ما. وقف على عتبة المطبخ، سمع أمعاءه كصرير باب قديم، تذكر حينها قول أمه "إذا تملكك اليأس، فاعلم أنك جائع لشيء تحبه، وأنا سأعده لك الآن". كانت تهمهم بالموسيقي وهي تطبخ، يتذكرها بجسدها السمين البض، واقفة أمام الموقد، تردد لحنا لمحمد فوزي.
- سألها مرة: "هل هذه طريقتك للتركيز في الطهي؟
- فأجابت "الطعام يا بني يحب الغناء". فتعجب وسألها عن قصدها.
- نظرت إليه بابتسامة عذبة، عادت بخديها الورديين إلى الوراء وقالت: "إن الطعام شهوة، والشهوة متعة، ليس لمجرد ملء البطون. أتعلم؟، أذكر زمانا كان لكل شيء مذاقه الخاص، حتى القبلة كان لها نشوة خاصة، فنحن نعيش لنستمتع، لنشعر ونتذوق".
- فقال لها "وصحتك يا أمي، ألا ترين وجهك الذي حوله الضغط العالي والسكر إلى تفاحة ناضجة؟، كما أن قلبك لا يحتمل كل تلك الشهوة".
- لا تشغل بالك بتفاهات الأطباء، فما فائدة حياتي إن لم أستمتع بها. لن آكل طعاما لا أحبه، فرق كبير بين إشباع رغباتك بشغف مشتعل وبين أن تقوم بهذا فقط في سبيل الاشباع الجسدي"
ارتسمت على وجهه ابتسامة، قبل أن تقع عيناه على الساعة لينتبه أن الوقت حتما سيضيق عليه إذا لم يسرع. وقف وسط المطبخ تائها، لا يعلم من أين يبدأ، أغمض عينيه محاولا أن يتذكر الخليط الذي كانت تصنعه أمه. انساب لحنا لمحمد فوزي من أنفاسه، توقف لحظة، فتح عينيه متذكرا. كانت أمه تضع كوبين من الدقيق وبيضتين وكوبا من الزبد الذهبي وكوبا من اللبن. بحث عنهم ووجد كل ما يحتاجه. وضع كل شيء على المنضدة، شمر عن ساعديه ليبدأ، ولكنه توقف فجأة حين لاحظ أنه لم يجد الزبد. فالزبد في منزله كأسلحة الدمار الشامل المحرم امتلاكها على دول العالم الثالث. "من أين سآتي بالزبد؟" قال. ها هي الساعة تدق الواحدة، وزوجتي لن تعود قبل الساعة الثالثة، ما زال هناك متسع لي كي أذهب للسوبر ماركت وأحضر الزبد".
ارتدى ملابسه بسرعة، أزاحت يده علبة الدواء أثناء التقاطه مفاتيح السيارة، وقال ”سأتجهالك اليوم، لن أشرب الماء كي تتدفق في حلقي، سأشرب فقط حين أشعر بالعطش“ - قالها ثم وضع سترته وذهب“. قطع طريقه متمهلا. ثم فكر ”ماذا كانت تضع أمي بعد الزبد الذهبي؟، لا يهم، حين أحضره سأتذكر بالتأكيد“. وصل أخيرًا للسوبر ماركت، لم يكن يرتاده كثيرا مع زوجته. بدا له من الخارج عملاقا من الأساطير الغابرة، أما حين سار في طرقاته، شعر أنه في أمعائه الواسعة، يتجول باحثا عن الزٌبد. ولكنه تاه في طرقاته المكدسة بالبضائع المختلفة. تلاحقت أنفاسه. توقف ليسأل أحد العاملين عن غايته، فأخبره أن يسلك الطريق الثالث يسارا، ثم يسير في طريق مستقيم به قسم المنظفات، بعدها ينعطف يمينًا، سيجد ثلاجات كبيرة مفتوحة الأرفف، وهناك مكان الزبد". تسارعت أنفاسه، بدأ يشعر بالخدر في قدميه، ورأسه يمطر عرقًا رغم برودة المكان. تداخلت الطرقات والأفكار في رأسه. ثم وقف فجأة وصرخ ”ما هذا؟، أين أنا؟، من أكون؟، أنا جائع؟، لن آكل طعامها الميت من الطعم والرائحة، إذا كانت تلك متاهة فأنا لسه فأر، وإن كنت فأرًا فأنا لا أريد الخروج من المتاهة قبل أن آخذ الزبد الذهبي الذي كانت تضعه أمي“. ثم سقط مغشيًا عليه.