الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

حماية المحكمة الدستورية لحقوق الأفراد

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كما كان لأحكام المحكمة الدستورية العليا أثر كبير على النظام السياسى في المجتمع المصرى، كان لها دور كبير كذلك في حماية حقوق الأفراد؛ فقد أصدرت المحكمة عديدًا من الأحكام تتعلق بحق الملكية الخاصة، وأن لها حرمة ويجب أن تصان ولا تمس، خاصة بعد ما تعرض له هذا الحق من ظلم وانتقاص خلال الفترة التى سبقت إنشاء هذه المحكمة، وكذلك نجد لأحكام المحكمة أثرًا واضحًا في المجال الاجتماعي، وهو المجال الذى يمس حياة الأفراد العاديين في أمور تتعلق بالتعليم والصحة والعمل النقابي.

ولعل أبرز هذه الأحكام حساسية هى ما يتعلق بالحريات والحقوق السياسية للأفراد، والإشكالية تظهر هنا في صعوبة التوفيق بين اعتبارات متعارضة، فالموازنة بين السلطة من ناحية والحرية من ناحية أخرى أمر بالغ العسر والدقة؛ ومن هنا كانت حساسية القضاء الدستورى، وكانت أهمية وجوده وأهمية إحاطته بسياج قوى.

ومثل هذه الأمور لا تثير كثيرًا من المشكلات في الدول التى تأكدت بها سيادة القانون؛ حيث يكون الرأى العام هو السياج النهائى الذي يحمى الدستور، ولكن الأمر يصبح بالغ الدقة والحساسية حيث تكون سيادة القانون ما زالت تحبو على ساقين ضعيفتين، وحيث تكون السلطة التنفيذية حريصة على دوام هزال هذين الساقين، وتكون سلطة التشريع لا تملك عصمة نفسها في كثير من الأحوال؛ وفى مثل هذه الظروف تصبح مسئولية القضاء الدستورى جسيمة، وخطيرة ويوشك أن يقف وحده لكي يحمى الدستور ويصون أحكامه ويذود عنه عدوان المعتدين.

ومنذ نشأتها وقد اعتبرت المحكمة الدستورية العليا الحريات العامة محور اهتمامها وركيزتها، معتبرة أن الشئون العامة وقواعد تنظيمها وطريقة إدارتها ووسائل النهوض بها وثيقة الصلة بالمصالح المباشرة للجماعة، وهى تؤثر بالضرورة في تقدمها، وقد تنتكس بأهدافها متراجعة إلى الوراء، وكان لازمًا بالتالى أن تكون حقوق الإنسان، التى نص عليها الدستور وتوافق على حمايتها المجتمع الدولى مكفولة لكل مواطن، وألا تفرض السلطتان التشريعية والتنفيذية على حقوق الإنسان التي كفلها الدستور، أيًّا كان الغرض من تقريرها، قيودًا لا يقتضيها تنظيمها، أو تعطل إنماءها، ذلك أن الدستور حرص على أن يفرض على هاتين السلطتين من القيود ما ارتآه كفيلًا بصون الحقوق والحريات العامة على اختلافها، كي لا تقتحم إحداها المنطقة التي يحميها الحق أو الحرية، أو تتداخل معها بما يحول دون ممارستها بطريقة فعالة، بالنظر إلى أن تطوير هذه الحقوق والحريات وإنماءها من خلال الجهود المتواصلة الساعية لإرساء مفاهيمها الدولية بين الأمم المتحضرة صار مطلبًا أساسيًّا، توكيدًا لقيمتها الاجتماعية، وتقديرًا لدورها في مجال إشباع المصالح الحيوية المرتبطة بها، ولردع كل محاولة للاعتداء عليها.
ولقد أدركت المحكمة أن مصر عضو عامل في المجتمع الدولى، وأن ما يطبق فيها من قواعد قانونية يتعين ألا يكون غريبًا عن المستويات المستقرة في الديمقراطية الحديثة، وهو ما دفع المحكمة إلى إعلاء شأن العديد من الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحماية حقوق الإنسان التى تعكس حدودًا للحماية، استقر المجتمع الدولي على ضرورة التقيد بها، ولم يكن منهاجها سوى إطلالًا على تلك القيم التى تتقاسمها الدول جميعًا أيًّا كان شكل حضارتها أو ثقافتها، تحديدًا لأبعادها على ضوء نظرة كلية تحيطها، ولا تنفصل عنها حقوق الإنسان، وهو ما يعنى أن لهذه القيم روافدها التى لا تنحصر في الحدود الإقليمية لإحدى الدول، ومفاهيمها التى استقر العمل على تطبيقها دون تقيد بهذه الحدود، ومن ثَمَّ كان لازمًا أن تنهل هذه المحكمة منها، وأن يكون وعيها بحقائقها أداة لتطوير قضائها، فلا يكون جامدًا أو باليًا، وكان منطقيًّا كذلك أن يكون دورها متعاظمًا؛ لأنها تطرح دومًا، ومن خلال هذا القضاء، تلك النظرة الأشمل لحقوق مواطنيها وضمانات صونها وحمايتها وفقًا للمعايير التي استقر عليها المجتمع الدولى في تطوره الراهن، وقد كان لهذا الاتجاه أثره الإيجابى في تدعيم ثقة المؤسسات الدولية في الحماية التى يوفرها القضاء المصرى لحقوق الإنسان.
ونكتفى في هذا الصدد بالإشارة إلى أحد أحكام المحكمة التى أثرت في حقهم في التعبير عن رأيهم بحرية، وهو موقف المحكمة من النصوص المعتدية على حرية الصحافة.
فمن النصوص التشريعية التى أبطلتها المحكمة الدستورية لعدوانها على حرية الصحافة نص الفقرة الثانية من المادة 15من قانون الأحزاب السياسية الصادر بالقانون رقم 40 لسنة 1977 المعدل بالقرار بقانون رقم 36 لسنة 1979 الذى قضي بأن يكون رئيس الحزب مسئولًا مع رئيس تحرير صحيفة الحزب عما ينشر فيها؛ حيث أكدت المحكمة مخالفة هذا النص لمبدأ شخصية المسئولية الجنائية وشخصية العقوبة وإخلاله بافتراض البراءة وبحرية الرأى والحق في التعبير، وكذلك بحرية الصحافة التى أقامها الدستور كسلطة مستقلة لها كيانها الخاص، وخولها أن تعبر عن رسالتها في حرية وأن تعمل على تكوين الرأي العام وتوجيهه بما يكفل للجماعة قيمها ومصالحها الرئيسية، ويصون للمواطنين حرياتهم وحرماتهم ويعزز وفاءهم بواجباتهم وبما يؤكد أن الصحفيين لا يخضعون في عملهم لغير سلطان القانون.
كما قضت المحكمة أيضًا بعدم دستورية ما نصت عليه الفقرة الأولى من المادة 195 من قانون العقوبات من معاقبة رئيس تحرير الصحيفة أو المحرر المسئول عن قسمها الذي حصل فيه النشر إذا لم يكن ثمة رئيس تحرير بصفته فاعلًا أصليًّا للجرائم التى ترتكب بواسطة الصحيفة. وأكدت أن الدستور كفل للصحافة حريتها ولم يجز إنذارها أو وقفها أو إلغاؤها بالطريق الإدارى بما يحول كأصل عام دون التدخل في شئونها أو إرهاقها بقيود ترد رسالتها على أعقابها، وحيث إن افتراض براءة المتهم وصون الحرية الشخصية من كل عدوان عليها أصلان كفلهما الدستور بالمادتين 41 و67، فلا يجوز أن تأتى السلطة التشريعية عملًا يخل بهما، وعلى الأخص بانتحالها الاختصاص المخول للسلطة القضائية في مجال التحقق من قيام الجريمة بأركانها التى حددها المشرع بما في ذلك القصد الجنائى إذا كان متطلبًا فيها، إلا أن النص المطعون فيه قد افترض أن الإذن بالنشر الصادر عن رئيس تحرير الجريدة يفيد علمه يقينًا بالمادة التى تضمنها المقال بكل تفصيلاتها، وأن محتواها يكون جريمة معاقبًا عليها، قصد رئيس التحرير إلى ارتكابها وتحقيق نتيجتها، مقيمًا بذلك قرينة قانونية يحل فيها هذا الإذن محل القصد الجنائى، وهو ركن في الجريمة العمدية لا تقوم بغيره.
مما سبق يتبين تفاعل المحكمة وتأثرها وتأثيرها في الواقع الاقتصادى والاجتماعي والسياسى، الأمر الذى جعل لها دورًا بارزًا في وضع الكثير من الأسس والضمانات التى تكفل حقوق الأفراد، وتردع السلطة الحاكمة إذا ما جاءت على تلك الحقوق، وهذا كله يؤكد دور الرقابة القضائية الدستورية في ترسيخ مفهوم مبدأ دستورية الحكم، لدى الحكام والمحكومين على حد سواء.