الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

محاورات وجدي ووحدة المنهج وأصالة المقصد

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لما كان علم الجدل هو ذلك النهج الذي يقابل بين الأدلة لانتخابه منها أفضل الآراء المناسبة لرؤية المجادل من جهة، وأقرب الدروب التي تستطيع إقناع المخالف في المسألة أو لأمر محط النقاش من جهة أخرى. أما جانبه السلبي فيتمثل في إتيان أحد المجادلين بأدلة لفظية أو وقائع خافية على الخصم ويخلطها المجادل بواقعات وبمعارف غير واضحة وذلك بقصد إقناع المناظر برأيه بغض النظر عن صحة أو سلامة أو صدق المقدمات التي بنيت عليها النتائج. 
وعرف أفلاطون (عاش 427 ق.م - 347 ق.م) الجدل بأنه فن الحوار، وأن المجادل الحق هو الذي يلتزم بمنهج المحاججة والإقناع دون أدنى مغالطة أو خداع لإفحام الخصم وإرغامه -دون إكراه- على التسليم بصحة رأي المناظر، فالغرض من الجدل هو الانتقال من تصور إلى آخر أو من مفهوم إلى غيره للوصول إلى أعم التصورات وأعلى المبادئ المختلف عليها.
وكيف لا وهو سبيل أستاذه سقراط (470 ق.م – 399 ق.م) ودربه للتعلم وهداية الذهن للحقيقة دون تلقين أو تقليد أو إجبار أو مراوغة أو التسليم برأي سلطة الجمهور أو ما هو سائد في الرأي العام أو يرد إلى تحزب جنسي أو تعصب ملي أو ميل نفسي ومن ثم فلا يجوز للمجادل إغفال قدرة خصمها على الفهم والإدراك والمتابعة، وعليه يجب على المناظر الفيلسوف العاشق للحقيقة أن لا يسلك أي شكل من أشكال المراوغة والتلاعب بالألفاظ فالحقائق لا تدرك إلا بضبط المعاني وتحديد الدلالات.
ومن ثم يحذر على المساجل الاستعانة بالغامض وغير المألوف والمشوش من المفاهيم والتصورات والآراء والمصطلحات، كما يجب عليه أيضا تجنب الخلط بين الأجناس والأنواع، والعام والخاص، والمطلق والنسبي، في الأمثلة التي يوردها. 
ويؤكد أفلاطون أن للجدل نهجان، أولهما يرتقي من الاعتقاد بالظن إلى المعقول والحقيقي واليقين، وثانيهما ينتقل من المبادئ المسلم بها والمقطوع بصحتها إلى البرهان ثم المعقول ثم المبرر والجائز المحتمل.
وقد اتخذ المحاورون المحدثون هذا النهج في مثاقفتهم فميزوا بين الكلي والجزئي، والعام والخاص، والمحسوس والمعقول، والتجريد والتجريب، في حججهم، وقد حاول المتثاقفون الجمع بين الخطابة والجدل والمنطق في صياغة نقودهم وردودهم ساعين من خلال تلك الصياغات توضيح الغامض والملغز من الألفاظ، والكشف عن أصول الأفكار، والتمييز بين المذاهب والاتجاهات، وإثبات تهافت الأفكار الزائفة، وفضح الأخبار الكاذبة، ومناقشة المعتقدات الفاسدة. 
وقد أعلى المناطقة من شأن الحوارات القائمة على الاستدلال العلمي الرياضي أو التجريبي على المناظرات التي تتخذ من الجدل نهجا لها.
ويعد كانط (1724-1804م) المثاقفات الجدلية إحدى آليات الكشف عن اضطراب الأنساق وتناقض الأفكار وكذب الأخبار وغير المعقول من التصورات.
أما هيجل (1770-1831 م) فبين أن للجدل ميزة لا توجد في المنطق. فالأحكام المنطقية تتسم بالصرامة في الحكم وتقابل التصورات وتعريف المفاهيم في الحدود والقضايا المنطقية، أما الجدل ففي استطاعته الجمع بين المتناقضين في سياق واحد يجمع بينهما ويشكل في الوقت نفسه نتيجة يمكن مناقشتها أو حكم يعجز الاستدلال أو الاستنباط أو الاستقراء والبرهنة عليه. 
فالنبيل يمكن وصفه بأنه سيد وعبد في وقت واحد، فالسيد سيد بنبله وماله ومكانته، وإذا ما تدنى إلى شهواته وأصرف في البذخ وتعلق بالسافل من الخصال والشهوات من الفعال أصبح عبدا رغم حسبه ومكانته. 
والعكس صحيح فالعبد العفيف الذي يتزين بالحياء والصدق والشجاعة والأمانة يمكن وصفه بأنه سيدا رغم مكانته الوضيعة وفقره وفقدانه للحرية.
أما المفكرون المعاصرون فقد اتخذوا من الجدل آلية لإثبات الأحكام الكلية واليقين المطلق والرؤية الأحادية والقيود المذهبية والتعصب في الرأي والعنف في المناقشات وراحوا يروجون للمصطلحات الآتية (الممكن، والجائز، والمستبعد، في ضوء اللحظة، غير علمي، في ضوء المعارف الحالية، يبدو لي، يتراءى لي، أعتقد وأظن، أمر يحتاج إلى مراجعة، يحق لي الشك في). 
وإذا انتقلنا إلى الثقافة العربية فإننا سوف نجد معظم المعاجم لا تفرق بين معنى الجدل والتناظر والمناقشة من حيث المعنى الوظيفي. 
فالتناظر على سبيل المثال هو ترداد الكلام بين شخصين يقصد كل واحد منهما تصحيح قوله وإبطال قول صاحبه مع رغبة كل منهما في ظهور الحق القانع بصحته. فهو يختلف عن المراء وهو درب من دروب الجدل الفاسد فالمماري هو المجادل الذي يرمي إلى تزييف القول والاعتراض على صاحبه والتصغير من شأنه وإثبات تهافت رأيه. 
بينما الجدل الممدوح هو الذي يسعى مقصده إلى إظهار حقيقة أو إثبات واقعة أو إزالة لبس أو غموض أو خداع وهو فرض عين على العلماء الذين ينتصرون دوما إلى الحيدة والموضوعية والعقل والمسلمات التي يستحيل الشك فيها.. وقد يكون فرض كفاية على الذين يراعون آدابه وشروطه ولاسيما في ميدان الدعوة. 
أما الجدل المذموم فمقصده الباطل والكذب والخداع والغش والتطاول على المناظر مستعينا في ذلك بالمعارف الفاسدة والأخبار الكاذبة وتأييد العصبة الجاهلة من الجمهور الذين يرفعون من قدره فتتحقق له الرئاسة الزائفة. وهو بطبيعة الحال منهي عنه شرعا، "وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ" (الكهف 56). ويجمع العلماء أن الجدل بضربيه محظور على العوام وذلك لأن مآله الشقاق والفرقة والنزاع. 
الأمر الذي يفسر كراهية الفقهاء للجدل وصد الناس عنه ولاسيما في أمور العقيدة، وقد ذهب الغزالي (1058-1111 م) إلى ضرورة إلجام العوام عن علم الكلام ومن أقواله في ذلك: "انكب الناس على علم الكلام وأكثروا فيه التصانيف ورتبوا فيه طرق المجادلات واستخرجوا فنون المناقضات في المقالات وزعموا أن غرضهم الذب عن دين الله والدفاع عن السنة وقمع المبتدعة".
ويؤكد ابن حزم (994-1064م) أن إشغال العوام بالجدل أشر من الحرب والكفر لأنه لا يصيب المتجادلين فحسب بل يتسلل إلى عقل الأمة بأثرها، ويفتح آتون الريبة وباب التطرف أمام الدهماء والمغرضين. 
كما حظر الإمام محمد عبده (1849-1905م) من الخلط بين الخلافات السياسية والمجادلات العقدية والعصبيات المذهبية والمعارك الأدبية والمثاقفات الفلسفية. 
وقد استفاد محمد فريد وجدي من تلك المفاهيم بل واستوعبها جيدا وكان من أفضل مطبقيها في العصر الحديث فلم يعرف عنه أو من شاركه في تحرير الصحف التي أنشأها أو رأس تحريرها إنه جادل من أجل تزييف الرأي العام أو إثارة الشقاق بين الأحزاب أو الفصل في قضية تبعا لمزاجه وهواه أو القدح في خصومه أو مناصرة أربابه.
ويبدو ذلك بوضوح في المثاقفات والمساجلات التي شارك فيها قادة الرأي في النصف الأول من القرن العشرين حول قضايا الفكر المطروحة آنذاك نذكر منها: قضية تحرير المرأة والحكم على دعوة قاسم أمين، وقضية الإلحاد وإعلان إسماعيل أدهم إلحاده، والكهنوت في الإسلام وما آثاره خالد محمد خالد حول السلطة الدينية، ومدى مشروعية تطبيق المنهج الديكارتي على الكتب المقدسة، وقضية الشعر الجاهلي عند طه حسين. 
وسوف نتبين مدى حرص وجدي على الاستخدام الأمثل للمنهج الجدلي في مساجلاته ومناظراته.
وللحديث بقية