الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

أخوة يوسف

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لم يكن يوسف بائع "الفريسكا" وحده الذى تفوق وحصل على أعلى الدرجات، رغم أنه كافح ويكافح من أجل أن يظل ممسكا بتلابيب الحياة، يأخذ منها حقه بعزم شديد وكيد حميد، فأخوة يوسف كثر ومنتشرون في ريف مصر شمالا وجنوبا، في قراها وأحيائها الشعبية، التى لا يمكنك أن تشم رائحة مصر الطيبة، إلا من عبق بيوتها التى ما تزال تضخ في شرايين الوطن عناصر البقاء والأمل.
أخوة يوسف هم المئات من العباقرة في شتى مجالات العلم والفن والأدب الذين رزقهم الله الموهبة والنجابة، ولم يرزق والديهم رغد العيش وبحبوحة الرزق، لكن مولاهم جعل منهم قادة لمجتمعاتهم وللإنسانية كلها، بما حصلوه من تعليم مجانى لولاه ما كانوا ولولاه ما استفادت من عطائهم البشرية.
أخوة يوسف هم العلامة الراحل أحمد زويل، الذى اعترف بجودة التعليم المجانى من الابتدائى حتى الجامعة في خمسينيات وستينيات القرن الماضى، ولولاه ما استطاع أن يواصل مسيرته نحو العالمية ونحو نوبل، وهم الدكتور فاروق الباز الذى نشأ في أسرة بسيطة ولولا مجانية التعليم الجامعى وما قبل الجامعى لما استطاع أن يواصل مسيرته العلمية في الداخل ثم الخارج.
آلاف النماذج ممن حرموا وفرة المال ورزقوا سخاء الموهبة، رأيناهم وما زلنا نراهم بجوارنا، ونعايشهم حولنا في كل مكان لولا مجانية التعليم لما استطاعوا مواصلة طريق التفوق والعطاء لوطنهم ومجتمعاتهم، ولن تجد من أوساط أصحاب الوفرة المالية الكبيرة من على شاكلتهم، لأن هموم طبقتهم لا تعتبر العلم هدفا ولا تراه وسيلة للترقى الاجتماعي، فهذه أهداف موجودة بطبعها لديهم ليسوا بحاجة للسعى إليها.
نجابة الفكرة لم تكن تخفى على النجيب الأديب طه حسين الذى رأى ضرورة أن يكون العلم والتعلم أمرا متاحا للكافة دون تمييز بسبب المال والطبقة، وأطلق لهذا عبارة "التعليم يجب أن يكون كالماء والهواء" وهى عبارة لا تزال مثلا تاريخيا يردده فقراء الأمة ويتباكون عليه في ذات الوقت.
والآن في الوقت الذى بدأت فيه الدول الكبرى خاصة دول أوروبا الرأسمالية تعود للعمل بمجانية التعليم الجامعى مرة أخرى، نجد أن مصر تمضى في طريق التعليم الخاص بإسراف يغوص بأقدامنا في طريق الطبقية التعليمية، التى تنهش دخول المصريين بلا رحمة، فتتضاعف أعداد الجامعات الخاصة، وتسير في ركابهم الجامعات الحكومية، التى بدأت تبدع طرقا جديدة في نزع ما في جيوب البسطاء من ملتحقيها.
فلم تعد الجامعات الخاصة وحدها، هى من تتفنن في نهب أموال الطلاب وأولياء أمورهم، بل نافسها في ذلك الجامعات الحكومية التى ابتدعت أقسام جديدة برسوم ضخمة بآلاف الجنيهات، بل ابتدعت في القسم الواحد طبقة مميزة من الطلاب القادرين، يتمتعون دون غيرهم بوسائل تعليمية ومعامل وقاعات مكيفة وشرح واف لا يتوافر للطالب الفقير غير القادر حتى ولو كان متفوقا ومستحقا!
إن الإسراف في منح أصحاب المال شهادات علمية دون غيرهم من الفقراء المجتهدين هو مبدأ يتناقض مع الدستور الذى يفرض المساواة وتكافؤ الفرص بين جميع أبناء المجتمع، ويتناقض مع مجانية التعليم بما فيه التعليم الجامعي.
بل إن اعتبار التعليم سلعة لا يشتريها غير القادر عليها هو أمر يضعف حاسة الانتماء بين هؤلاء الطلاب نحو مجتمعهم، وقد رأينا في السنوات الأخيرة المئات أو الآلاف من النابهين في العلم قد آثروا الهجرة للخارج، لاستكمال تعليمهم الجامعى في مراحل البكالوريوس والماجستير والدكتوراة مجانا في أكبر جامعات أوروبا، التى تجتهد في جذب هؤلاء الباحثين وتعليمهم مجانا والاستفادة من أبحاثهم وجهودهم وبذلك يستفيد الطرفان.
نحن بحاجة إلى إعادة النظر في كثير من القرارات الخاصة بالتعليم الجامعى، وقبل الجامعى، فبلادنا بحاجة لعلماء يبنونها، ويضيفون لها، ولن يكون هذا إلا بإتاحة العلم لمن لا يملك سوى موهبته وإرادته، حتى وإن كان بلا مال يزكيه.