الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

د. يسري عبدالله يكتب: "يمشي في العاصفة" محاولة لترويض العالم

د. يسري عبدالله
د. يسري عبدالله
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ثمة ذات شعرية تعاين العالم في ديوان الشاعر عزمي عبدالوهاب ( يمشي في العاصفة)، تتقاطع معه على طريقتها، تنحو صوب الخلاص من كابوسيته عبر خيال جديد، مفارق للسائد والمستقر، يتكئ على حمولات المجاز، والمشهدية البصرية.
وعبر نص يتشكل من أربعة أقسام مركزية: "لرجل حمل البحر على كتفيه/ سأحكي لك كثيرا/ يمشي في العاصفة/ اتركيه لحاله.. يا حنين" يأتي ديوان "يمشي في العاصفة"، الصادر عن دار "آفاق" بالقاهرة، مشغولا بامرأة طيفية وواقعية في آن، يسعى رجل - يمشي وحده في العاصفة- لترويضها، في سياق بحثه عن ترويض العالم، غير أن معطيات الواقع المتعين في فضاء النص الشعري يبدو عصيا على الإخضاع، إنه يقدم فحسب معطى جاهزا للغضب، لإبداء النفور، والقابلية للمساءلة، تلوح في الديوان ذات شاعرة مأزومة وموزعة، تستشعر قدرا من الخيبة والوحدة والإحباط، لرجل حمل البحر على كتفيه، ومشى وحده في العاصفة، ذات شاعرة تخاطب مرويا له ضمنيا محددا، وتتجادل معه طيلة الديوان. مروي له يمثل وجها آخر للعالم، فثمة امرأة أحبها، وقرر أن يحكي لها كثيرا، أو يطلب من شخصيته المتخيلة " حنين" أن تترك بطله المتخيل لحاله، بدءا من القسم الأول" لرجل حمل البحر على كتفيه" بقصائده التي تمزج بين الطول والقصر، ونصوصه المبنية على استدعاء آلية الإسناد البلاغية، حيث البدء بالمسند إليه/ الاسم/ المبتدأ، ثم يليه المسند الذي يكون هنا جملة فعلية: "الأشجار تكره الوقوف/ العصافير قتلها الصمت/ القطارات ماتت انتظارا في المحطات/ الهواتف لا تنقل الكلام/ بين المحبين/ المحبون حبسوا البهجة في عيونهم/ المراهقون بحثوا عن حديقة مناسبة للغرام/..".
يعصف الملل بالعالم، وتهيمن اللاجدوي عليه، فتأكل من روحه، ويتسع القيد، ويزداد بطشا وإحكاما، ولم يعد سوى المرأة/ الحلم، لم يعد سوى المجاز / الأمل في وعد جديد بالعيش" فيا إلهي:/ حرر هذه المدينة/ من قبضة امرأة/ حبست الشمس في كفها/ قبل أن يتحول الكون/ إلى متحف للشمع". 
تبرز آلية الحلم في " رائحة قديمة"، ثمة حلم كابوسي غارق في العبث Absurd، تتعاطى معه الذات الشاعرة بعادية وتكمل السير، وكأن الكابوسية قد أضحت ملمحا لعالم متهدم على شفا التداعي والانهيار: " كثيرا ما أطالع وجوه موتاي/ في الأحلام:/ جلباب أبي على السور/ وأخي يقودني إليه في العتمة،/ والنساء اللواتي أحببتهن،/ ولا زلن على قيد الحياة/ يأتين على هيئة مومياوات/ انتهك اللصوص أسرارها/ أولئك الموتى/ جراحهم طازجة/ يسيل منها الدم والندى".
يؤنسن الشاعر بيت الحبيبة، ويدعوه إلى فتح بابه، وتتواتر جملته المركزية في النص "يا بيت حبيبتي"، وينهض عليها البناء.
تحمل الذات الشاعرة البحر على كتفيها في "بحر وأسماك ملونة"، ويوظف الشاعر تقنية البناء على المفردة في قصيدته "سرير ويدان وبيجامة" ويرجيء الجواب إلى الخاتمة، مستخدما أيضا ألية البناء الدائري حيث البدء من نقطة ثم العودة إليها في النهاية: "اليدان اللتان تدربتا جيدا على العناق/ الوجه الذي ينظر من خلف القضبان/.. الرائحة التي يبحث عنها أنف امرأة جميلة/.. كل هذا/ يجعلك تتشبث بيدين/ تدربتا جيدا على العناق". 
عن رجل تركته امرأة في منتصف الرغبة، فصار جثة باختصار، أو حفنة من ذكريات ضالة، أو صار شبحا يطارد ظل امرأة مغوية، تصبح بمثابة مركز الحكي الشعري في الديوان ومراده تتحرك نصوص القسم الأول التي تشغل حيزا كميا يفوق ثلثي المتن الشعري للديوان.
يبني عزمي عبدالوهاب نصه القصير" البلاد الغريبة" على المجاز، والتكثيف اللغوي المحكم:" الليل قاتل/ النهار أعمى/ والموسيقى خرساء"، هذه النصوص القصيرة بدت في مواضع قليلة مفرطة في عاديتها وفي عدم قدرتها على خلق الدهشة/ فعل الشعر وسؤاله، مثلما بدا في قصيدتي ( وحشة)، و( ذكريات سيئة). 
يداعب الشاعر الخيال الشعبي، ويوظف دالا مألوفا للوجدان العام يبني عليه نصه الشعري "هكذا خلقت"، فالمهرة الحرون عصية على الترويض، والتعب قد أدرك الذات الشاعرة، ثم يخرج الشاعر من الخاص إلى العام في صرخة يريد لها أن تسمعها فتاته المتمردة حتى تفتح الهاتف المغلق في قصيدته " هاتف مغلق":" سأصرخ:/ يسقط الباعة الجائلون/ والقتلة/ ولصوص الثورات،/ ربما فتحت هاتفا/ ينير الطريق/ إلى صوتك".
يسائل الشاعر القصيدة، ويتجادل معها في نصي " القصيدة/ خيال قديم"، وتظل المرأة مركزا وجوهرا في الآن نفسه، ولا يقدمها بطريقة كلاسيكية فتصبح مثالية أو رومانتيكية، بل يقدمها عبر محاولة فنية واعية بتبدلاتها المختلفة، حتى ينهي القسم الأول بقصيدته " قراري الأخير"، في نص بديع، يحيل فيه الشاعر إلى ديوانه المدهش "حارس الفنار العجوز"، ويكسر فيه أفق التوقع لدى المتلقي، بعد أن يستدرجه بنعومة شديدة صوب عوالم مازجة بين الواقع والمتخيل، بين العذابات الإنسانية والأحلام الكبرى، فالذات الشاعرة قررت البكاء نيابة عن المجموع، عن السماء والوطن، والحبيبة والأرض والبحر والشمس، ثم تخالف ما أعلنته، حين تقرر ألا تبكي من أجل أحد أو شيء، لأن الكل قد تركها تبكي وحيدة، وشرعوا ضاحكين!.
في الأقسام الثلاثة المركزية " سأحكي لك كثيرا/ يمشي في العاصفة/ اتركيه لحاله.. يا حنين"، ثمة روح شعرية شفيفة تسيطر على القصائد الثلاث التي تتسم بالطول، مقارنة بقصائد القسم الأول القصيرة، روح تمتاز بالتدفق الشعري، والانتقالات الذكية بين المقاطع، والانتصار للحياة، في مواجهة موت يظهر ويختفي، هنا يوظف الشاعر الضمائر الثلاث، بدءا من الأنا/ المتكلم في " سأحكي لك"، ومرورا بالغائب في " يمشي في العاصفة" ووصولا إلى المخاطب في " اتركيه.. لحاله يا حنين"، معبرا عن تباين التجربة الشعورية وتقاطعها في آن، فتأتي مثقلة بالألم وانفضاض الحلم، والعزلة اللا شعورية، والانتظار الطويل لشيء، بل لأشياء هاربة، هنا يوظف الشاعر جملا مركزية يبني عليها نصوصه، فتبرز جملته الشعرية المركزية ( سأحكي) في "سأحكي لك كثيرا"، وتبرز جملته الأثيرة ( ليت روحه تخف) في " يمشي في العاصفة"، وتتواتر عبارته الشعرية ( قولي لها) في " اتركيه لحاله.. يا حنين"، بما تحمله من مباعدة فنية بين الشاعر والذات الشاعرة، وبين النص وقائله.
وبعد.. يراكم عزمي عبدالوهاب تجربته الشعرية الخاصة، بدءا من (النوافذ لا أثر لها – الأسماء لا تليق بالأماكن – بأكاذيب سوداء كثيرة – بعد خروج الملاك مباشرة – حارس الفنار العجوز – شخص جدير بالكراهية)، ووصولا إلى ديوانه الأخير(غلطة لاعب السيرك). وفي "يمشي في العاصفة" ثمة روح شفيفة، أسيانة على شيء مضى، باحثة عن المرأة بوصفها جوهر العالم وحكايته المغوية والمقموعة في آن.