الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

سِرّك في بير

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
بعد أن ودّعت صاحبي الغريب، انصرف لحالِ سبيلهِ، لا يعجبه هذا العصر الذي تغيّرت فيه ِ نفوس الناس، وتشوهت أخلاقهم، وانتكست فطرتهم، بل وتلاشت عرُى أعرافهم التي صمدت عقود طوال، تحفظ ما بينهم من روابط إنسانيةٍ جميلة، عاشوا في ظلالها هانئين.
ولىّ الرجل مُنزعجا، رجوته كثيرا أن يتمهّل في حُكمهِ، وأن يتريثَ في قضائهِ، فلكُل ِ زمانٍ ظروفه وأوضاعه، ويجب ألا تحكمنا المواقف الفردية كي تعمّم على الجميعِ، لكنّه تأبّطَ جرابه، وخلعَ نعليهِ، وألقى السّلام في عجلٍ، بعد أن أسلمَ ساقيهِ للريحِ، جرى فوق ترابِ الجِسرِ جري المُهر الشارد، ودعته وأنا أجهل هويته، من يكون صاحبي هذا الذي انشقت الأرض عنه، لم يكن أمامي إلا أن أعود لداري، فقد بلغ الجهد مني مبلغا، ولكن رأسي المُثقل بأسئلته لم يترك لي فرصة، سؤالات تخمش عقلي، من يكون صاحبي الذي تشقّق عنه الجدار، وكيف جاء من زمانٍ سحيق ٍ، وهل تدهور حال مجتمعنا الريفي الآمن، حتى أصبح سبةً تتحاشى، كيف استفزّ حفيظة الغريب، ففرّ ولم يعقب، أم ترانا اعتدنا هذا التدني؛ فأصبح جزاء من ثقافتنا، وملمحا من ملامحِ حياتنا المهترئة حتى أنّا اصبحنا لا نحيا دونه، كان عليّ المرور ببيتِ الأفندي، أستعيد بعض عافيتي، واروّح نفسي في جلسةٍ أشبه بالخلوةِ، أستجمّ في حديقته بين أعوادِ الريحان والنعناع الأخضر الفوّاح.
كان الرجل قد انتهى من عشائه. وقد تهيأ تماما لشربِ كؤوس الشاي المنعّنع، وتلك عادته منذ أن عرفته، مع كُلّ مساءٍ له جلسة، لم أكن على حالي ككُلّ ليلةٍ، تنكبتني الهموم، لاحظ الأفندي بفراسته هذا التغيّر البادي، فبادر كدأبهِ بالسُؤالِ، وكثيرا ما كان يسأل الرجل، عن كُلّ صغيرةٍ وكبيرة تعنيني، في البدايةِ راوغته، تعللت بأنّ ألما عارضا ألمّ برأسي من حرارةِ الجو، وحتما سيزول مع كؤوسِ الشاي المنعنع، مدّ يده ناولني الكوب، لم يرفع عينيه الزرقاوين عني، لكنّه اكتفى بمصِّ الشاي في صمتٍ، وعلى وجههِ الشّاحب ترتسم علامات التعجب والاستنكار، راودتني نفسي ساعتئذٍ ؛ أن اقصّ عليهِ حكايتي مع الغريبِ، عليّ أن أجد تفسيرا وحلا لهذا اللّغزِ، لكن وساوس تعتمل في داخلي، تحولُ بيني وبين أن اطلعه على هذا السّرِ، فالأفندي لو اطلع على سرِّ الغريب، حتما سيصرّ على مقابلتهِ، وأنىّ لي ذلك، لكن ما المانع من إشراكهِ في أمري، فلن أعدم المشورة، نظرت إليهِ وقد تهلّل وجهي بِشرا، استقبلني بوجههِ باشّا، وكأنّه على درايةٍ بما يختلج في نفسي، اعتدل في جلستهِ فوق كرسيهِ الخيزران، بعد أن هرش َ في كعبهِ كالعادةِ، فركَ حبات " اللّب" البلدي بيدهِ، فتحول قشرتها إلى غبارٍ، قال في اندفاع ٍ: قول.. سرك في بير.
ما إن سمعت هذه المقولة ؛ حتى تعالت ضحكاتي، ألقيتُ بفضلةِ الكوب في فمي، وكأني أخذت عندها الإذن لأندفع بالكلامِ، هدأت نفسي، واطمأن قلبي، نزلت عباراته المقتضبة عليّ ؛ كعزيمةِ الرفاعي التي يروض بها أعتى الثعابين والحيات.
اندفعت في كلامي دون رويةٍ، والرجل يهزّ رأسه غير مكترثٍ، وكأنّه لا يصدِّق ما اقول، لم يكف أثناء حديثي عن هرس حبات اللب بيدهِ، وطحنها بين جذور أسنانه، انتهيت من كلامي على مضضٍ، وكأنّ جبلا ثقيلا ازيحَ عن صدري، طلبت مشورته، مرّر الأفندي يده فوق أنفهِ الطويل المدبب، وحرك طاقيته الصوف التي اعتلت رأسه الرفيع، ثم قال مُمازحا: دا حلم ولا حقيقة..؟!
غلا الدّم في عروقي، واحتدم الغضب في صدري، وأنا أرى أمارات الاستهزاء بادية في كلامهِ، عاجلته والأسى يعتصرني، تلطفت معه قدر استطاعتي وألنت له الجواب، فما ذنب الرجل الذي فتح لي بيته، جاوبته وأنا اتعجّل المغادرة، بعد أن أقنعته أن القصة من بناتِ أفكاري، وأن الدعابة اقتضت هذا التلفيق، غادرت سريعا إلى البيتِ، وفي الطّريقِ ندمت أشدّ النّدم، لقد تغافلت عن توصيتهِ بسريةِ الأمر فلا يطلع عليهِ أحد.
وفي الصّباح بكرّتُ مع طيورهِ التي بدأت تُزاحِم الفضاء في سعادةٍ، ساعية لرزقها المقسوم، اخذتني قدميّ لنفسِ المكان، بجوارِ الجدارِ المتهالك، وبيدي كتابي القديم، انشغلت في قراءةٍ متقطعة، صفحات أطويها مُشوّشا، وبعد برهةٍ نسيت أمر صاحبي الغريب الذي، ما قدمت إلا لأجلهِ، أمضيت دقائق على هذهِ الحالة، وعلى حينِ غرةٍ اهتز المكان وارتج الجدار، وتكاثفت سحب الدخان الأبيض الرقيق، ليخرج الرجل من وسطهِ، اضطربت مفاصلي وأنا أراه يتقدّم نحوي في بِشّرٍ مُسلِّما، لم يخطر على بالي هذا الشيء، فكُل ما عاينت مجهولا لا يقرأ إلا في كتبِ الأساطير.
ألقى السلام وهو ينفض عنه غباره، بادرته في غرابةٍ: أين كنت.. ولماذا اختفيت كل هذه المدة، ومن أين أتيت.؟!
أشار بيدهِ مقاطعا، وكأنّه لا يريدني أن اكمل استجوابي، طالعته في هيئتهِ المعروفة، جبته الحمراء، ونعله الأصفر، وعمامته الخضراء المكورة بإحكامٍ، ولحيته الكثة، ودفتره الذي تأبّطه، وجرابه الكبير الذي علّقه في عنقهِ، قال في عزمٍ: هلا طفت بِنَا في دروب القرية وأزقتها، نكمل ما انقطع من مشاهدةٍ.؟ 
جاوبته على الرّحبِ والسّعةِ، انطلقنا سويا، كان الرجل حذرا هذه المرة على ًعكسِ سابقهِ، تحاشى فورا السّير تحت الجدران ِ، فما رآه في المرةِ السابقة، نَزَعَ عنه كُلّ أمانٍ، فلربّما باغته حجر طائش، أو لبنة من حيث لا يحتسب، فتكون الطوبة في المعطوبة.
كان الهدوء سيد الموقف، خيم الصّمت على الدّربِ، لم نسمع إلا صراخ الصّغار، بستعجلون الطعام، وهذا حالهم في مثل هذا الوقت من الصّباح، ووعود الأمهات التي تسبق كُلّ وجبةٍ، بأن الأكل على النارِ يوشك أن ينضج.
مشينا سويا، نتذاكر ما حدث في المرةِ الفائتة، بين أسفَ وحسرة، وضحكٍ ومزحة، وفجأة باغتنا الضجيج، وتطاير النفير، تنادى الناس فيما بينهم، هرول الرجال والنساء والصبيان، تفشى الهرج، وعمّت الفوضى الأرجاء، اختلط الحابل بالنابل ِ، كان صاحبنا قد عدّ عدّته وتجهّز لأسوءِ الاحتمالات، فكُل مرةٍ قد لا تسلم الجرة، تحلّق الناس من حولِ رجلين، شهرا عصيهما في عراكٍ محتدمٍ، وألسنتهما تتوهج بأقذع السّبابِ، لم تفلح الوساطات في فضّ الاشتباكِ، تقدّمت من سيدةٍ أعرفها، همست إليها في نجوى: ما الأمر يا خالة.؟!
قالت في ثورةٍ: لقد أفضى "س" إلى "ص" بسرٍّ، فخانه وأذاعه على الملأ، فهو الآن يُعاتبه.
امسكت بيدِ صاحبي أسوقه بعيدا، عدنا من حيث أتينا في هدوءٍ.
جاء عن عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه أنّه قال: "القلوب أوعية الأسرار، والشفاه أقفالها، والألسن مفاتيحها، فليحفظ كُلّ امرئٍ مفتاح سره".