الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

النعيم لا يدوم

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
انتهيت لتوّي من أحدِ المشاويرِ المهمة التي أجّلتها منذ أسبوعٍ مضى ، كان لِزاما عليّ الذهاب بعد تسويفٍ ومماطلة ، وتلك عادة مُتأصّلة فيّ، لم اتوقع النهوض هكذا على غيرِ عادتي من الفراشِ بسهولةٍ، بل والانطلاق قبل الموعدِ بفترةٍ كافية ، لا اخفيكم سرا ، فأنا اكره السّير لمسافاتٍ بعيدة والانتظار في الأجواءِ الحارة ، والتي تكون مدعاة للضيقِ ، وتلك طبيعة يتفق فيها أغلب الناس .
سألت نفسي أكثر من مرةٍ : كيف لشخصٍ ريفي مثلي في عقدهِ الرّابع ، ذاق من الحياة قسوتها ، وشرب من مرارتها حتى اكتفى ، تناوبت عليهِ الخطوب فتا وشابا ، ضرب بفأسه بين عيدان الذرة تحت لهيب الشمس الحارق ، ووسط شجيراتِ القطن في عِزّ ظهيرة الصيف القاسي ، تكفيهِ شربة ماء من فمِ ( بلاص) أن يضيق ذرعا بهذهِ السهولة ..؟!
لقد قضيت شطرا لا بأس بهِ من حياتي ابنا بارا من أبناء الطّين ، ادبّ فوق المصارفِ والجداول والجسور ، اخوض غمار الصّهد المُتصاعد من ترابها ، اتعقب حماري البني الصغير ، احمل عليه (مزابل السباخ البلدي ) ، أو انقل فوق ضهرهِ المنخفض احمال التراب النّاعم ، افرش بها حيشان البهائم كما جرت سنن الحياة في قرانا الطيبة .
لا يمكن لشخصٍ مثلي غاص في ذكرياته حتى رقبتهِ ، أن يتغافلَ عن سهراتهِ الصيفية التي قضاها بين الرِّفاقِ ، مفترشين الأرض ، وملتحفين السّماء أيام موسم الذرة ( الدراوة) في انتظارِ نوبة الري ، والتي في الغالب ما يكون الماء شحيحا نادرا فيها ، فيلجأ الفلاح المسكين ؛ لقضاء ِلياليه في العراءِ ، منتظرا رحمة موظف الرّي ( البحارة ) به ، أن يفلت بوابات الرّي على الجسورِ ومداخل الترع ولو ساعة ، تكفيه كي يسقي أرضه التي حرقها العطش .
يجتمع في تلك الليالي شباب القرية في شللٍ كبيرة ، أشبه ما تكون بالتخييم ، لكن مع الفارقِ ، ففيها نكهة ريفيةٍ خالصة ، طعامهم ما تجود بهِ الأيدي من رزقٍ البيوت خيراتها ، قطع الجبن القديم الغارقة في السّمن البلدي ، أو أطباق البيض المقلي مع الكِشكِ ، أو صواني الباذنجان الشّهية المطبوخة بالطماطمِ فوق لهب أفرانِ الطّينِ.
لا تهدأ النار حتى الصّباح، ما إن تخمد حتى تشبّ من جديدٍ، حين تُلقى إليها أهواءِ حطب القطن ، وأعواد البوص اليابس ، ومن حولها تحلّقَ الجمع يتعاطون كؤوسا من خمرِ الفقراء ، الشاي الأسود المطبوخ فوق " كانون" يُصب من فوهةِ برادٍ عتيق ، لا يُنتزع من فوق جورةِ النارِ حتى انقضاء السّهرة، تصحبها روائح " البتاو" المقدّد ، الممدّدة رقائقه فوق وجه النارِ، تمتد إليها الأيدي في نهمٍ لتفرك في وسطها قطع الجبن القديم الغارقة في خليطِ المش، ثم تُبرم وتدفع دفعا في الحلوقِ، تتبعها عيدان الجرجير الأخضر والبصل في أحيان .
وسط أهازيج الشباب الصاخبة ، ومداعباتهم وضحكاتهم التي لا تنقطع ، يطوف فيها السّمار ليلهم في أحاديثٍ من قصصِ الحياة وشؤونها .
كُلّ هذا والقوم يتبادلون مثنى وفرادى المرور بين حيضانِ الحقلِ ، يمرقوا بين عيدانِ الذرة ، أووسط غمارِ أشجار القطن المحمّلة بالوسواسِ الأصفر، وحنوك اللّوز الأبيض ، التي شرعت في 
إعلانِ ابتسامتها للوجودِ ، وبأيديهم مشاعل النارِ كالمردة ِفي قلبِ الظلام.
مضت حياتنا هكذا طويلا ، قبل أن تتبدّل الأحوال والظروف ، حين كان لحياتنا مذاقها المُحبب، لا أخفيكم سرا ، لقد هيأ الله سبحانه لنا كُلّ سبل الحياة ، التي نتكيّف بها مع الواقعِ المرير ، طوّع نفوسنا بل وأجسادنا البالية ،كي تقبل بهذهِ الظروف .
المسألة سهلة ، لأنّا عوّدناها حتى ألفت هذه الطبائع ، فلا حيلة إلا التسليم بقضاءِ الله النافد فينا .
اعترف بأن تقبلنا لهذهِ الظروف القاسية كان من بابِ انعدام الحيل ، قبلناها على مضضٍ كما قبلها أسلافنا من قبلِ، لكن حتى وإن كان ، فأعيننا لا ترى هذا القبح السّائد ، ولا تشم الجشع الذي حول إنسان اليوم ؛ لآلةٍ هشّةٍ ، مجردة من كُلّ مظاهر القوة ، فاضحت رخوة تميل للكسلِ لا للعملِ.
إن المصري القديم ذو بأسٍ شديد ، بنى الحضارات ، وشيّد العمائر وأسّس المدن ، قاد الجيوش العِظام، التي قهرت الدنيا، التي جابت الأرجاء وغيّرت وجه الأرض ، علّم الشّجر والحجر كيف يكون الخلود ، امتلك بين يديهِ أدوات الرفاهية وترف الحياة ، لا تزال شواهدها حاضرة فوق جدرانِ معابدهم ، وآثارهم الشّامخة والمخبوءة ، تحكي فصولا من كتاب العز، تخبرك بأصالةِ هذه الحياة ، وتعدد مظاهر النعمة فيها ، ورغم ذلك فالإنسان نفسه ، ابن بار من أبناءِ الكدِّ والعرقِ ، تناثرت حبات عرقه في الحقلِ والبيتِ ، في الحضرِ والمدرِ. 
في قُرانا الآمنة ، كان النّاس أمة واحدة في الفقرِ والعوز ، كان الفلاح يبيت ليله كالا من عملِ يدهِ، لا يشغل باله ولا يحيّر فكره بأمورِ الغد المطوية في سجلِ الغيب، يغلق قلبه على أوجاعهِ ، لا يبوح بها حتى لنفسهِ ، يكفيه الكفاف من الأملِ يبلغ بهِ يومه.
في قريتنا الآمنة توارثت العائلات الشقاء ، هراوة الفأس ميراث سخي ، وانحناءة الظهر في الأبعاديات والدوائر ، جواز المرور لهذا العوالم الرّحبة ، التي لا ينقضي التعب فيها، ينزل المرء من بطنِ أمه قابضا على هراوة فأسهِ ، محافظا على آداب فقره ،حتى يسلمها لمن بعدهِ على المحجة البيضاء ، لا يزيد ولا ينقص ولا يبدل من سنن الكون الراتبة . 
في قريتنا شاهدت بعيني كيف استلقى الفلاح على حافةِ الترعة ، يغبّ من ماءها العكر غبّا ، ثم تجشأ راضيا يحمد ربه ؛ أن مكّنه من أن يروي غلته .
في قرانا اضطرت الظروف الناس ، أن يمشوا حفاة فوق ترابِ القيلولة الساخن بلا تأففٍ أو سخط ، يطلبون السلامة فلا يجدوا إلا التنقل تحت ظلالِ جريد النخيل ، وأفرعِ أشجار الصفصاف .
وخلف النورج ساروا فوق الحرثِ الخشن يُدمي أقدامهم ، داروا حول أجرانِ القش ، وراء ثيرانهم ساعاتٍ وساعات ، وهبهم الله عزما شديدا ، وبأسا هون على نفوسهم متاعب العمل وقسوته .
منذ أيامٍ تصادف وجودي في حافلةٍ من حاقلاتِ الريف ، اقلّتني للبندرِ ، ووسط الناس رحت اتابع في صمت حكاياهم، وقد بسط الناس كتاب الحكايا كما ألفوا ، سمعت شكليا منوعة ، وقصص تُذمي القلب ، رجل مسن انزل جام غضبه على شباب هذه الأيام ، نعتهم بكُلّ لفظٍ قبيح ، أثار ضحكاتي التي لملمتها من فوق شفتي عباراته التمثيلية ، وهو يسرد ميوعتهم وتلف أخلاقهم ، مترحما على زمان وأيامه ، لكن ما ازعجني في كلامهِ الساخر ، حرقته وهو يحكي تهافت شباب هذه الأيام الذي ترك الكدّ والعمل ، وسعى خلف ميراثه قبل وفاتِ مورّثه ، تقاسم الأخوة حصصهم قبل وفاة أبيهم ..
صممت أذني عن السّماعِ ، انشغلت بمطالعة منظر الحقولِ الخضراء من حولي ، وصلت الحافلة أخيرا ، هبطت وانخرطت في مشي وسط الزحام ِ ، لكن ظللت مشدوها بين مطرقةِ الماضي ، وسندان الحاضر .. وللهِ في خلقهِ شؤون.