الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

مشروع الصعيدي من المنهج إلى التطبيق

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لقد بينت المقالات السابقة أن عبدالمتعال الصعيدي كان مجدداً نسقياً وصاحب مشروع إصلاحي مترابط الأركان، الأمر الذي يمكننا من إيجاز أهم تطبيقاته واجتهاداته في تجديد الفكر الإسلامي وآرائه النقدية الجادة في قضايا التراث والتجديد والحرية والوعي والإصلاح, وهي تلك القضايا التي شغلت جل قادة الفكر ورواد التنوير في الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة.
فطالما أكد الصعيدي على ضرورة إعمال العقل وممارسة التفكير الناقد في كل ما يدرج من الموروث لتخليصه مما علق به من دخيل ومنتحل وتفسيرات ضاله ومفاهيم مغلوطة, ومثل ذلك لن يتأتى إلا بإصلاح وتقويم مناهج التعليم والبحث في الأزهر، إيماناً منه بأن إعادة فتح باب الاجتهاد وتحديث العلوم الأصولية لن يتحقق إلا على يد حماة الإسلام من علمائه ومفكريه الذين طبعوه على الجمع بين صحيح المنقول وصريح المعقول والدراية التامة بالمقاصد الشرعية وشروط المجتهد وسمات الداعية وخبرة الواقع واستشراف المستقبل ومألات التوجيه، محذراً من الرجعيين والجامدين والجانحين والمسيسين وأرباب الفتن وأصحاب الجماعات الذين يزعمون امتلاك الحقيقة المطلقة، وأنهم يمثلون الفرقة الناجية فيبدلون الدين وينحرفون عن مقاصده ويزيفون وعي الأمة ويصدون الناس عن حقيقة الإسلام وقيمه السمحاء ودستوره الرحب.
كما وضح أن خطر الجامدين على الإسلام ليس أقل شراً من المجدفين والمتطرفين والإرهابيين فما أكثر الكتابات الضالة المضلة التي كانت وراء تخلف الأمة الإسلامية من جهة واتهام المسلمين بالهمجية والعنف من جهة أخرى. 
وها هي أهم ملامح خطته في التجديد والإصلاح التي تركها أمانة للأجيال المقبلة المتطلعة لإنقاذ المسلمين من كبوتهم بدفعهم لإحياء مجدهم التليد واستأنفهم رسالتهم في هداية الإنسانية:
• نقض الزعم القائل بأن السبيل في إصلاح الأمة مرهوناً ببلوغ غايات يأباها الواقع المعيش من جهة, والمقصد الشرعي من جهة ثانية والأصول الإسلامية التي تنتصر للعلم والعقل والسنن الكونية والمتغيرات الحضارية من جهة ثالثة.. وذلك مثل الدعوة للوحدة الإسلامية او الخلافة الدينية أو السياسة الشرعية التي تنحصر مهمتها في تطبيق الحدود والضرب على يد العصاة والمخالفين والمرتدين والأغيار من أصحاب الملل الأخرى, والترويج للفرقة الناجية أو الاستناد على تفسير بعينه لآيات القرآن أو تحقيق عالمية الإسلام عن طريق العنف وتجييش الجيوش للقتال, استناداً على فهم خاطئ لحقيقة الدعوة الإسلامية وتجاهل الشروط الواجبة لحرب المسلمين مع الأمم الأخرى. 
ولعل ما يحدث في أيامنا هذه خير دليل على صدق اريحية واستشراف الصعيدي لمألات مخالفة شيوخ المسلمين لحقيقة الأصول الشرعية والتعاليم الإلهية.
• رفض كل الدعوات التي تنشد إصلاح المجتمع عن طريق الاستيلاء على السلطة والتغيير الفجائي وإهمال الحكمة النبوية في تقويم المجتمع بداية من إصلاح البيت المسلم ونقض كل العوائد والمسالك التي تتعارض مع الخلق الإسلامي عن طريق النصح واللين وإفشاء العدالة في المجتمع وحرية البوح والاعتقاد وتنبيه الغافل وتعليم الجاهل والضرب على يد الفاجر والانتصار للمصلحة العامة وتقديمها على المنافع الفردية. 
واعتقد أن رأي الصعيدي في هذا السياق هو الأصوب، فالثقافات تتبدل وتمرض وتنحط وتتخلف بموجب إهمالها لعوامل الفلاح وابتعادها عن آليات النجاح وانتشار الفساد وظلم العباد، فالمريض لا يُعنف ولا يصلح معه التهديد والوعيد بل الرعاية ووصف الدواء بعد معرفة العلة وأسباب مخالفة الملة. 
• العزوف تماماً عن كل ضروب التقليد والمحاكاة ولاسيما في الأمور الاجتهادية والوسائل المعيشية إلا بعد تحليل ما فيها من معارف ونظم للكشف عن مدى موافقاتها للثوابت العقدية والمقاصد الشرعية.
• رد الاعتقاد بأن هناك أحاديث نسخت أحكام وردت في القرآن وذلك بغير دليل قطعي أو برهان لا يقبل الشك فيه والأصوب عنده أنه لا ينسخ آيات القرآن إلا آيات أخرى وردت فيه، وذلك لأن الأحاديث المتواترة ليست بمنأى عن الدس والانتحال, كما أن قضية الناسخ والمنسوخ بين الأحاديث النبوية والآيات القرآنية محل خلاف بين الفقهاء الأقدمين فقد رفضها الشافعية وأيدها مالك وأحمد ابن حنبل وأبو حنيفة والظاهرية في حين أن اتباع هذه المذاهب المتأخرين قد رفضوا هذا المعتقد كما نزع الصعيدي مع أنصار الاتجاه العقلي في الفكر الإسلامي الحديث إلى أن كتب الأحاديث تحتاج إلى مراجعات نقدية تقابل فيها متون الأحاديث بآيات القرآن ذات الصلة وذلك لأن معظم الأحكام الخاصة بصحة الأحاديث تعول في المقام الأول على سلامة السند دون علم العلل الخاص بدراسة المتون.. علماً بأن هناك دراسات معاصرة لكتابي البخاري ومسلم قد انتهت إلى عدم خلوها من أثر الإسرائيليات. 
• تجديد علم الكلام وتحديث آلياته على نحو يمكنه من الرد العلمي والعقلي البرهاني على منتقدي الإسلام والمشككين في سلامة النص القرآني, وحكمة ما صح من الأحاديث النبوية ذلك فضلاً عن تزويد علماء العقيدة بكل ما يعينهم من معارف لمعالجة كل مظاهر الجنوح والجموح المتفشية في الشباب بداية من مسايرة العوائد المجافية للملة والإصغاء لدعاوة المشككين والمضللين التي تدفعهم للإلحاد والتحلي في الوقت نفسه بأدب الخلاف وموضوعية الجدل والمناظرة والتساجل والابتعاد تماماً عن لغة الشجب والتكفير والقدح والحط من شأن الآخر وتسفيه حجته.
أضف آلى ذلك آنشاء مجمع علمي لرصد كل المتغيرات العقدية في البلدان الإسلامية وذلك لمعالجة الخلل الملي في تلك الثقافات وتقويم كل مواطن التطرف قبل تفشيها.. والتواصل في الوقت نفسه مع أصحاب الديانات الأخرى وذلك عن طريق المؤتمرات الدولية التي تنشد التسامح بينها. 
• تجديد علم الفقه وذلك عن طريق الفصل بين سلطة الموروث الفقهي وحرية الاجتهاد انتصاراً للمصالح المرسلة ومعالجة مشكلات الواقع في ضوء علم المقاصد، وآنشاء مجمع فقهي يحتكم إليه عند الخلاف عوضاً عن إجماع الفقهاء القدماء، وذلك لأن الفُتية هي لسان الشرع في كل عصر، ولما كانت الأصول الشرعية لا تجافي سنة التطور وتؤمن في الوقت نفسه بأن الشريعة الإسلامية صالحة للتطبيق أبداً فيصبح لزاماً على الفقهاء المحدثين الاجتهاد في إيجاد حلولاً للمشكلات والقضايا المعاصرة.
ومن هذا السبيل نجده ينادي بضرورة وضع معجم فقهي أو موسوعة تجمع كل الآراء الفقهية دون الانتصار لمذهب بعينه وذلك ليستعين بها الفقهاء المحدثون.. وفي ميدان التطبيق يشترط الصعيدي بعض الضوابط لصحة الزواج لم يتطرق إليها الميراث الفقهي فعلى سبيل المثال: ذهب إلى أن البأة لا تعني القدرة الجسدية ولا وفرة المال فحسب بل الصحة النفسية والحنكة العقلية والقوة على تحمل المسئولية والسلامة البدنية والدراية بالمبادئ التربوية ذلك كله بالإضافة إلى التمسك بالقيم الأخلاقية وآداب المعاشرة الزوجية. 
كما نادى بإلغاء الطلاق الشفهي وإلزم المطلق بكتابة عقد مماثل لعقد القران وإنشاء هيئة اجتماعية يحتكم إليها لفض المنازعات الزوجية وذلك كله للحد من ظاهرتي زواج الصغيرات وكثرة المطلقات الأمر الذي يضعف البنية الاجتماعية الإسلامية, وينعكس بالسلب على الأبناء. 
كما أجاز زواج المسيار لدرء المفاسد والخلع عند الحاجة للضرر، كما شجب وحذر من تفشي بعض العوائد القبلية التي تحرم المرأة من اختيار زوجها والموافقة عليه وحرية التصرف في مالها وعدم انتقاص حقها في الميراث أو آجبارها على العودة ثانية إلى عصمة من طلقها بغض النظر عن شهور العدة. 
وساير ابن تيمية في أن الطلاق ثلاثة لا يقع في مجلس واحد وأضاف عليه ضرورة الإشهاد والتوثيق في كل طلقة على حدة، وذلك بعد محاولة الإصلاح بين الزوجين قبيل كل طلقة حفاظاً على كيان الأسرة.. كما أكد على ضرورة التزام المرأة بشروط السفور مع المحارم وذلك حتى لا تظهر المرأة بهيئة مثيرة للفتن.. ولعله كان مصيباً في هذا الرأي الأخير فالبيت المسلم قد أصابه الكثير من العطب والانحلال إلى درجة أننا أصبحنا نسمع في أيامنا هذه عن زنا المحارم.. أما زواج الفتيات المسيحيات من شبيبة المسلمين لغرض شخصي أو هوى نفسي فلا ينبغي تشجيعه حتى لا تثار الفتن بين المسلمين والأقباط, فلن يفيد الإسلام من يرغب فيه لغاية سوى الهدى والقناعة القلبية والعقلية المنزهة عن أي غرض مادي. 
• تخلية التصوف الإسلامي من كل الشوائب والبدع والنظريات الفلسفية التي لحقت به والعود به ثانية إلى اقتفاء سنة النبي والعوائد التي أقرها والخصال التي استحسنها – صلى الله عليه وسلم - وذلك لأن الصعيدي كان ينظر للتصوف على أنه الممثل الأول لعلم الأخلاق الإسلامي الذي يمكن أن نستقي منه أصول التربية الروحية والتنسك المحمود والزهد المستحب, وأنكر تماماً ما يحدث في ما نطلق عليه الموالد وحفلات الزار وحلقات الذكر وما أدخل عليها من طقوس ومراسم لا دخل للعبادة فيها، ووضح كذلك أن محبة الله الخالصة لا تدفع المسلم إلى القول بالفناء وترك الدنيا أو بالاتحاد أو بالحلول أو وحدة الوجود أو وحدة الأديان أو المقارنة بين الولاية والنبوة أو الإعلاء من شأن أصحاب الكرامات والاعتقاد بان لهم مكانة ربانية أو حظوة الهية، وأن السبيل لبلوغ الكمال الإنساني له طرائق وكل طريقة لها أمام ينبغي على المريد السير على دربه والتعلق بأذياله والتماس البركة منه.. وبَين الصعيدي أن التصوف البدعي الذي ذاع في القرن الثامن عشر وامتد إلى أيامنا هذه لا يعبر عن التصوف السني والحياة الروحية الإسلامية. 
• ضرورة توجيه الأدباء والإعلاميين وكل من كان له صلة مباشرة بتربية الرأي العام والتأثير في الجمهور بضرورة الابتعاد عن كل ما يتعارض مع أصول الأخلاق الإسلامية ويتنافى مع الحياء والعفة والصدق والتسامح والوفاء والتراحم والولاء والانتماء وغير ذلك من القيم الخلقية التي حث عليها الإسلام, وذلك لأن في تركها خطر لا يحمد عقباه على سلوك الفرد والمجتمع، وأعتقد أنه كان مصيباً أيضاً في التأكيد على ضرورة تطبيق هذا التوجيه في مشروعه الإصلاحي، والواقع خير شاهد فجنوح الأدباء وانحراف الكتاب عن ما نطلق عليه اليوم – أخلاقيات المهنة – أضحى عاملاً من عوامل فساد المجتمع وإذا قيل أن في التزام الأدباء والكتاب بمنظومة تربوية أو خلقية يقيد حريتهم في الإبداع ويسجن طاقاتهم بمنأى عن مواكبة الآداب العالمية ومحاكاة الأساليب الغربية فيرد عليهم الصعيدي بأن القول بالتمرد على المشخصات وجحد الهوية لن يفضي أبداً إلا لضروب من الانحطاط ذلك فضلاً عن تزييف الوعي ويفتح الباب على مصراعيه لكل أشكال الجنوح والجموح والعبثية ولاسيما بين الشباب الذي ينخدع بأقوال المشاهير ويتخذ منهم القدوة.
• مراجعة المتون المقدسة, التي تحرم الفنون ووضح أنها لم تحرم إلا ما ارتبط منها بقولاً أو فعلاً أو مظهر قُطع بتحريمه مثل الخمر ولعب الميسر واللهو الماجن أو التعدي على الحرمات أو المثير للشهوات ودون ذلك فكل الفنون عند الصعيدي حلال وأن ممارساتها مباح ومعيار ذلك هو عدم خروجها عن المقاصد الشرعية من جهة والمآلات التي سوف تنجم عنها في المجتمع من جهة أخرى، وقد تعرض الصعيدي في هذا السياق لجواز تقديم القصص القرآني وسيرة النبي وقصص الأنبياء من قبله وأخبار الخلفاء والروايات التاريخية في صور تمثيليات ومسرحيات وأفلام وذلك بهدف تقريبها لأذهان العامة شريطة عدم التحريف. والفصل التام بين شخصيات الممثلين والأدوار التي يقومون بها, وقد خالف بذلك معظم شيوخ الأزهر آنذاك. 
وللحديث بقية..