الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

الثورة الأم.. ثلاثة أحداث فاصلة مهدت لـ23 يوليو

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

معاهدة 36 أضعفت الجيش المصري.. وتدخل سافر في الإرادة الوطنية مع حادث 4 فبراير
عبدالناصر: بذور الثورة زرعت في 1942.. والضباط شعروا بالمهانة مع الإنذار البريطاني
حرب فلسطين تكشف انهيار الجبهة الداخلية والخارجية.. والزعيم الراحل: أظهرت عدم جدية حكام العرب
المحتل البريطاني يدبر المؤامرات ضد مصر وجيشها.. وأوهام التسليح تتبخر في الهواء



استطاعت ثورة الـ 23 من يوليو في بدايتها تحقيق بعض أهداف القضية الوطنية، فقد كانت حقبة الخمسينيات والستينيات، هي سنوات العمل من أجل الاستقلال والوحدة العربية والتقدم الاجتماعي والتنمية الاقتصادية، وبالرغم من مرور 68 عامًا على ثورة يوليو إلا أنها مازالت تمثل تيارًا فاعلًا في الحياة السياسية والفكرية في مصر والبلدان العربية أيضًا، فهي الثورة الأم في التاريخ العربي المعاصر.
فقد عملت الثورة منذ بدايتها على الانحياز لصالح الشعب والقوى العاملة، فاتجهت إلى إقامة قاعدة صناعية حقيقية، فقد شهدت مصر عملية تنمية في جميع المجالات، فأصبحت تعتمد على نفسها وتنتج معظم احتياجاتها، هذا على المستوى الاقتصادي، أما الصعيد الاجتماعي فقد نص دستور 56 على مساواة المرأة بالرجل في الحقوق السياسية، ومنها حق التصويت والترشيح للانتخابات العامة، وشغل الوظائف على كافة مستويات الدولة.
أما على الصعيد العسكري فقد عملت الثورة على إقامة جيش وطني قوي في مواجهة المؤامرات، ولذلك نص بيان الثورة والذي أُلقى في صباح يوم 23 يوليو عام 1952 على الآتي: «اجتازت مصر فترة عصيبة في تاريخها الأخير من الرشوة والفساد وعدم استقرار الحكم، ولقد كان لهذه العوامل تأثيرًا كبيرًا على الجيش، وتسبب المغرضون الكثيرون في هزيمة الجيش في معركة فلسطين، أما فترة ما بعد للحرب، وتأمر الخونة على الجيش حتى تصبح مصر بلا جيش يحميها، وعلى ذلك فقد قمنا بتطهير أنفسنا وتولى أمرنا رجال نثق في خلقهم، ولاشك أن مصر ستلقى هذا الخبر بالابتهاج والترحيب».
فقد لفت الجيش المصري انتباه الدول الأوروبية بعد الانتصارات التي حققها خلال فترة حكم محمد على تحت قيادة إبراهيم بن محمد على خلال الفترة من 1831، وحتى 1840، وأثارت تلك الانتصارات أحقاد الدول الأوروبية الاستعمارية ضد مصر، ما دفعها إلى التدخل الذي انتهي بمعاهدة لندن يوليو 1840، والتي قضت بجلاء الجيوش المصرية عن سوريا وقصر ولاية محمد على ولاية مصر.
وهنا بدأ العدو البريطاني في حياكة المؤامرات ضد مصر وجيشها، الذي بدأ في إثبات قوته، وسارعت الإمبراطورية البريطانية في 11 يوليو 1882 لاحتلال مصر، وقامت بضرب مدينة الإسكندرية واحتلال مصر، بل لم يقتصر الأمر على ذلك فكان الهدف الأساسي من ذلك هو إضعاف الجيش المصري الوطني طوال فترة الاحتلال، وكان لهزيمة الجيش في حرب فلسطين عام 1948، ومن بعدها حريق القاهرة، سببًا رئيسًا في تفجر ثورة الـ 23 من يوليو عام 1952، لتنهي عصرًا من الفساد والرجعية والإقطاع وسيطرة رأس المال على الحكم، وتدخل مصر في عصر جديد.

معاهدة 36
وبعد أن فرضت بريطانيا سيطرتها على مصر، عملت على إضعاف الجيش المصري، وكان لمعاهدة 1936 والتي التزمت فيها بريطانيا بتحديث الجيش المصري ليصبح جيشًا متطورًا وأن تقوم بتزويده بالأسلحة والمعدات، إلا أن هذا لم يحدث على الإطلاق في واقع الحال، فقد كانت تتعنت دائمًا في عملية تزويد الجيش وكانت الحجة المستمر هي عدم مقدرة الصناعة البريطانية على إمداد الاحتياجات العاجلة للجيش المصري، فلم تورد إلى مصر سوى 6 دبابات من أصل 116 دبابة، ولم يصل من المدافع المضادة للطائرة سوى 8 مدافع من أصل 51 مدفع، وهذا ما انطبق على باقى أنواع التسليح من أعيرة نارية، ومدافع رشاشة، بالإضافة إلى باقي المهمات المطلوبة للجيش المصري، خلال عمل البعثة العسكرية البريطانية وحتى قيام الحرب العالمية الثانية عام 1939، فكان الهدف هو إضعاف الجيش المصري وتفريغه من محتواه وقوته.
وبلغت قوة المؤامرة البريطانية خلال فترة الصراع العربي الصهيوني، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، فقد قررت لجنة الدفاع الإمبراطورية في نوفمبر عام 1947 إلى وجوب تأخير الإمداد بالذخيرة لمصر، لمدة لا تقل عن ستة أشهر، ولم يكتفي المستعمر البريطاني بهذا الحجب وإنما عمد أيضًا إلى توريد المعدات التالفة والأسلحة الفاسدة، وهذا ما كشفه الدكتور عبد الحميد سعيد في مجلس النواب حيث قال:"إن مصر أصبحت سوقًا راجة للأسلحة البريطانية المهملة، فالمدافع التي استوردتها وزارة الحربية أصبحت خارج الخدمة في الجيش البريطاني،و في الجيش المصري الآن – عام 1938- 6 دبابات من نوع قديم ولا تزيد سرعتها على 16 كيلو مترًا في الساعة في الوقت الذي تبلغ فيه الدبابات الحديثة 65 كم.
كما كشف النقاب أيضًا عما اسماه بـ «التسلح الزيف» عندما أعلن عن أن المدافع القليلة التي تم استيرادها من إنجلترا كان معظمها قديمة، وانتهى استخدامها، ثم أرسلت هذه المدافع إلى المصانع البريطانية فملئت ثقوبها وتم إعادة طلاؤها، ومن ثم تم إعادة بيعها إلى الجيش المصري على أنها جديدة، وبعد وصولها وقام الضباط بفحصها تبينت الحقيقة للضباط المصريين، وهذا ما اعترف به رئيس البعثة العسكرية البريطانية فيما بعد.
فقد عمد الاحتلال البريطاني على إضعاف الجيش وتفريغه وحرمان مصر من إقامة جيش وطني قوي، بل وصل الأمر إلى تعمد توجيه الإهانة للجيش والتنكيل به.

حادث 4 فبراير 1942
وكان لكل تلك الأحداث سببًا رئيسًا في قيام ثورة يوليو وليكون أحد مبدائها هو تكوين جيش وطني قوي، ولهذا قامت حركة الضباط الأحرار الذين تمردوا على سلسلة الإهانات التي توجه للجيش، فقد ازداد شعور المهانة لديهم، وكان يوم 4 فبراير عام 1942 أي قبل قيام ثورة يوليو بعشرة سنوات أثرًا بالغ الأهمية إذ يُعد هو الميلاد الحقيقي للثورة، وذلك بعد أن طلب السفير البريطاني "لورد كليرن" مقابلة رئيس الديوان الملكي "أحمد باشا حسين" وسلمه إنذار نص على الآتي:"إذا لم أعلم قبل الساعة السادسة مساءً أن النحاس باشا قد دعى إلى تأليف الوزارة، فإن الملك فاروق يجب أن يتحمل تبعية ما يحدث"، وكان طلب المستعمر البريطاني بفرض تشكيل وزاري على مصر ويكون رئيسه النحاس باشا، في تدخل سافر في الإرادة المصرية، بل تطور الأمر إلى التهديد بمطالبة الملك فاروق بالتنازل عن العرش في حال عدم تنفيذ الإنذار.
وهذا ما أكده الزعيم الراحل جمال عبد الناصر في كتابه عن فلسفة الثورة حيث قال: "لقد كان اليوم الذي اكتشفت فيه بذور الثورة في نفسي هو حادث 4 فبراير 1942"، فقد شعر ضباط الجيش بمهانة شديدة في ذلك الإنذار، حيث يستكمل عبد الناصر في إحدى رسائله "إنني أشعر بخزي وعار شديدين لأن جيشنا سكت على هذا الاعتداء وارتضاه، لقد بدأ ضباطنا يتحدثون منذ ذلك الحادث عن الانتقام والثأر والتضحية والاستعداد لبذل النفس في سبيل الكرامة وأصبحت تراهم وكلهم ندم لأنهم لم يتدخلوا مع ضعفهم ليردوا للبلاد كرامتها ويغسلوها بالدماء، ولكن غدًا لناظره قريب".
فقد رد إنذار 4 فبراير الروح إلى أجساد ضباط الجيش، وعرفهم أن هناك كرامة يجب أن يستعدوا للدفاع عنها.
وقد ذكر الحادث أيضًا الرئيس أنور السادات حيث قال:" لقد أحسسنا بهذا الحادث وفهمنهاه من تحليلنا ومن تحرياتنا، وبينما كانت البلاد في ذهول، طاش صواب ضباط الجيش وبدأنا نفكر، لقد كانت الأحداث أغرب من الخيال وأذهلنا بعد ذلك ما تقاذف به السياسيون من سباب واتهامات، وما أثير من قصص الاجتماعات التي تمت في القصر والمواقف المسيرة، لقد طاش ضباط الجيش لأنهم كعسكريين شعروا بأنها ضربة عسكرية لا يردها سواهم، وفي فورة الحماسة بدأت الاجتماعات تعقد علنًا في نوادي الضباط لمناقشة الموقف وتقرير الخطة بصورة مفتوحة، لا يمكن أن تؤدي إلى خير".
وهكذا كان حادث 4 فبراير هو البداية الحقيقية لانشغال الجيش المصري بما يجري على مسرح السياسة، وتحول التفكير النظري للثورة إلى تفكير عملي، وبدأت نواة تشكيل الضباط الأحرار تتشكل في الخلية الأولى.
وهذا أشار إليه الكاتب الكبير إحسان عبد القدوس في مقدمة كتاب "الدبابات حول القصر" لكمال عبد الرءوف إلى أن حادث 4 فبراير 1942 كان هو الدافع الأقوى إلى تحريك الثورة الوطنية داخل الجيش، وبدء قيام التنظيمات السرية بين الضباط والتي كان بينها تنظيم الضباط الأحرار.
كما جاءت العديد من الاستقالات الجماعية بين ضباط الجيش احتجاجًا على التدخل البريطاني السافر في الشأن المصري، ومنهم اللواء محمد نجيب، حيث تتضمن نص استقالته التي قدمت للملك على النحو التالي:«أنني أخجل أن ألبس زيي العسكري وأطلب السماح لي بالاستقالة».
وعلى الرغم من المهانة التي ألحقها حادث 4 فبراير، إلا أنه كان أيضًا بمثابة الحافز لدفع عجلة الثورة، ويقول الرئيس الراحل جمال عبد الناصر: « فقد كنا بحاجة إلى شيء يجعلنا جميعًا ندرك الضرورة الملحة والحتمية في حركتنا الثورية فأعطانا الإنجليز ما نحتاج إليه.. كان ذلك في 4 فبراير 1942، ومنذ ذلك التاريخ لم يعد شيء كما كان أبدًا.. إن الحادث قد ألحق العار بمصر، لكنه رقم ذلك ألهمنا بروح جديدة، فقد أيقظ هذا الحادث أنسًا كثيرين من سباتهم وعلمهم أن هنالك كرامة تستحق أن يدافع عنها الإنسان بأي ثمن».

هزيمة 1948
ويقول الزعيم جمال عبد الناصر:«وجاءت القطرة الأخيرة التي طفح الكيل بعدها.. ففي مايو 1948 أنهت بريطانيا انتدابها على فلسطين، وأحسسنا جميعًا بأن اللحظة جاءت للدفاع عن حقوق العرب ضد ما اعتبرناه انتهاكًا صارخًا ليس للعدالة الدولية وحدها، ولكن الكرامة الإنسانية كذلك، لقد اتضح لي أن المعركة الحقيقية هي بالفعل في مصر، فبينما كنت ورفاقي نحارب في فلسطين، كان السياسيون المصريون يكدسون الأموال من أرباح الأسلحة الفاسدة.. ولقد كان من الضروري تركيز الجهود لضرب أسرة محمد على، فكان الملك فاروق هو هدفنا الأول فمن نهاية عام 1948 إلى عام 1952، كانت الفالوجا محاصرة، وكان تركيز العدو عليها ضربًا بالمدافع والطيران هائلًا مروعًا وكثيرًا ما قلت لنفسي: ها نحن أولاء هنا في هذه الجحور محاصرين، لقد غرر بنا ودفعنا إلى معركة لم نُعد لها، لقد لعبت بأقدارنا مطامع وشهوات، وتركنا هنا بغير سلاح، ولطالما ألح على خاطري سؤال "هل كان يجب أن نقوم نحن الجيش بالذي قمنا به في 23 يوليو 1952؟، لقد كنا نشعر شعورًا يمتد إلى أعماق وجودنا بأن الذي قمنا به في 23 يوليو هو واجبنا، وأننا إذا لم نكون قد تخلينا عن أمانة مقدسة، كنا نحارب في فلسطين، وأحلامنا كلها كانت في مصر، كان رصاصنا يتجه إلى العدو الرابض أمامنا في خنادقه، ولكن قلوبنا كانت تحوم حول وطننا البعيد الذي تركناه للذئاب ترعاه.. وكان شُغلنا الشاغل وطننا الذي يتعين علينا أن نحاول انقاذه».
ولما انتهي الحصار "في الفالوجا" وانتهت المعارك في فلسطين وعدت إلى الوطن، كانت المنطقة كلها في تصوري قد أصبحت كلا واحدًا، وأيدت الحوادث التي جرت بعد ذلك هذا الاعتقاد في نفسي، كنت أتابع تطورات الموقف فيها فأجد أصداء يتجاوب بعضها مع بعض، كان الحادث يقع في القاهرة فيقع له مثيل في دمشق وفي بيروت وفي عمان وفي بغداد وغيرها، وكان ذلك كله طبيعيًّا مع الصورة التي رسمتها التجارب في نفسي، منطقة واحدة، ونفس الظروف ونفس العوامل، بل ونفس القوى المتقلبة عليها جميعًا، وكان واضحًا أن الاستعمار هو أبرز هذه القوى».
فقد كشفت حرب فلسطين عن عدم الجدية التي ميزت تصرفات الحكام العرب الذين دخلوا الحرب، باعتبارها مظاهرة عسكرية تنهار على أثرها مقومة اليهود في فلسطين، فكان الملك فاروق يهدف إلى السيطرة لعى السودان وليبيا والعالم العربي، بينما كانت المملكة السعودية تريد أن تضم إليها أراضي اليمن، في حين كان هدف حكام سوريا ولبنان منع قيام مشروع سوريا الكبرى الذي كان الملك عبد الله يرغب في تنفيذه، هذا بالإضافة إلى الخلاف بين السعوديين والهاشميين"
فالكل كان يشغله شيء آخر غير تحرير أرض فلسطين، ويقول محمود فهي النقراشي رئيس وزراء مصر في تلك الفترة مؤكدًا على أنها مظاهرة عسكرية وليست حرب " أريد أن يعلم الجميع أن مصر إذ كانت توافق على الاشتراك في هذه المظاهرة العسكرية – حرب فلسطين- فإنها غير مستعدة قط للمضي أبعد من ذلك".
فقد كان الحكام العرب في تلك الفترة ينظرون إلى القضية الفلسطينية باعتبارها صراعًا جانبيًّا، فقد كان اهتمام معظم الجيوش العربية ينحصر في مجرد الاستيلاء على الأرض واحتلال المواقع الدفاعية بها، وهو الأمر الذي أدى إلى تثبيت معظم القوات المصرية وربطها بالأرض، وبذلك حرمت من فرصة الضرب المؤثر لتدمير القوة الضاربة الإسرائيلية، التي أتيحت لها على هذا النحو الفرصة الكاملة لممارسة حرية المناورة وتسديد الضربات الموجعة للقوات المصرية، والتي اكتفت بالتشبث بالأرض في المراحل الأخيرة للحرب، بل إن الحكومة المصرية لم توضح أو تحدد لرئاسة هيئة أركان حرب الجيش أو هيئة العمليات في أي وقت من الأوقات، فكان الغرض الواضح من الحرب هي التي تخوضها القوات، وكانت الأهداف المؤقتة التي يتم تحديدها للقيادة الميدانية تليفونيًّا أول بأول بمثابة التدخل الصارخ للسياسة في شئون الحرب".
وكان لهذه التواريخ الثلاثة وهي معاهدة 36، وحادث 4 فبراير 42، وأخيرًا حرب 1948، دافعًا قويًّا لضباط الجيش في الثورة على تلك الأوضاع التي عملت على إذلال الجيش المصري، وإهانته، وتفريغه من هويته الوطنية، وهو ما جعل الضباط الأحرار أن يكون نصب أعينهم إقامة جيش وطني قوى يستطيع الدفاع عن مقدرات الدولة المصرية، بل ويستطيع التصدي لأي تدخل غاشم في الدول العربية، فخاض حرب اليمن وغيرها من الحروب، ليصبح الجيش المصري الآن في مقدمة جيوش العالم.