الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

كراكيب "البساطي" في صخب البحيرة

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
حصل الروائي والقاص الراحل محمد البساطي (1937م-2012م) على جائزة أفضل رواية لعام 1994 بمعرض القاهرة الدولي للكتاب عن روايته "صخب البحيرة".
البساطي، الذي تحل ذكرى وفاته اليوم الثلاثاء، قدم عالمًا مليئا بالرمز في روايته البديعة "صخب البحيرة"، حيث تظل الأعمال التي تعتمد على الأشياء كعلامة سردية في التعبير عن مجموعة مكثفة من الدلالات تحمل طابعًا مشوقًا وذات تأثير رائع.
يبقى النص محاطًا بالغموض، ومن ثم يكون النفاذ إلى عمق المعنى أمرًا بالغ الصعوبة لانفتاح الدلالة، فالمساحات الغامضة بالنص تزداد كلما ترك السارد أفكاره ومعانيه للأشياء الموجودة في البيئة المحيطة لتؤديها، فتتجاوز مدلولاتها الحقيقية لتصل إلى حد التعبير عن نفسها بصوتها، وتبوح بالمكنونات.
وفي كتابها "بناء الرواية" الصادر عن هيئة الكتاب المصرية، توضح الدكتورة سيزا قاسم إن أشياء العالم الخارجي "تدخل في عالم الرواية وتساهم في خلق المناخ العام، هذا بالإضافة إلى دور هام وخطير إذ تتحول من مجرد عناصر من العالم الخارجي إلى رموز، فإذا كانت في بعض الأحيان مفسرة وموحية فإنها سواء كانت أشياء من الطبيعة: نباتات أو أشجار أو صخور أو زهور إلخ.. أو من صنع الإنسان فإنها تنتقل من معناها المباشر إلى مستوى أعلى وتصبح لها كثافة تتجاوز المعنى المعجمي للكلمة". 
في نفس السياق يعتمد البساطي في روايته "صخب البحيرة" على الأشياء، ومنذ الوهلة الأولى، يدخل عالم النص بعنوان مستخدمًا فيه "الصخب" هو صوت الأمواج المتلاطمة، ليحمل العنوان دلالة تعكس صورة سكان البلدة الموجودة على ضفة البحيرة. 
وفيه تتجاوز البحيرة ذلك المسطح المائي المعروف لتعطي مساحة فضفاضة من المعاني، ووفق ما قاله الدكتور مصطفى الضبع في محاضرات له بعنوان "من قضايا النقد الأدبي الحديث" بجامعة الفيوم كلية دار العلوم، فإن "الأشياء تظل على حيادها في الواقع حتى يأتي الفن ليجعلها في سياق قادر على إخراجها من حياديتها".
في السطور التالية نقدم محاولة لقراءة دلالة الأشياء في "صخب البحيرة" لن تتوقف عند كل الأشياء التي أغرت البساطي بنقل موقفها من الحيادية للتعبير كبديل أحيانا عن الإنسان، لكنني أتوقف عند ثلاثة أشياء: القارب، الكراكيب، الصندوق.

1- القارب.
يدخل القارب في عالم النص منذ الصفحات الأولى، مقتحمًا البحيرة، يحدد ملامحه: "كان قاربه بخلاف القوارب الأخرى – وكانت رفيعة مدببة الطرفين- عريضًا على شكل صدفة، مؤخرته مكشوطة وقد ثبت عصا بكل من طرفيه امتد بينهما حبل علق عليه كل متاعه"؛ هو في الحقيقة يغاير الكل، مطلي بالقار؛ ليأخذ ذلك اللون الأسود الذي يثير في نفوس الصيادين من حوله كدرا. 
يظهر القارب بصورة ينفرد بها عن القوارب الأخرى، كأنه إعلان من البداية عن نية السارد في تحميله معاني ليثبت عن أنه غير القوارب المستخدمة فقط كوسيلة للصيد والتنقل وسط البحيرة، إن رؤية ذلك القارب الذي يدل على غُربة صاحبه لتفرده في الشكل والحجم يثير سؤلا دائمًا في نفوس الصيادين عن أصل هذا الصياد العجوز صاحب القارب، ورغبة في معرفة حكايته، ويثير أيضا نفورًا وكدرًا بسبب ذلك اللون الأسود المطلي به، يُجبر الجميع على تحاشي النظر له.
توطدت العلاقة بين الصياد وقاربه، تبلورت في شكل ألفة وسكينة يشعر بهما الصياد ناحية قاربه، وشكل له القارب بيتا متنقلا ومتحركا يسافر به في اتساع البحيرة، بعدما أقام العشة على ضفة البحيرة في المكان غير المطروق، ونزل عليه الليل لم يستسلم للنوم إلا في القارب ليؤكد أنه من المستحيل خلق بديل عنه. ولقد سبب له النوم في القارب متاعب كثيرة: 
"سمعته يهمس كأنما يحدث نفسه أن زمنه ولى وأن الألم يمزق أحشاءه... قالت إن البحيرة لا ترحم في الليل. وإن الكثيرين يشكون نفس الوجع".
إن الألفة التي يحسها ناحيته كان يقاوم بها آلامه وغربته. يشبه بساطًا سحريًا يطير به فوق صفحة الماء، ينساب بسهولة، ويكون هو راقد بداخله، يعيش هذه الحال مُغلفا بالصمت الداخلي فلا يبادل حركة القارب بحركة مماثلة في بحيرة الذكريات لاسترجاع الماضي أو القفز إلى المستقبل لفك طلاسمه، وصمت خارجي يتمثل في استسلامه لحركة القارب دون حتى الحديث إلى الجمادات من حوله، هذه اللوحة الصامتة المفضلة لدى الصياد تضعنا أمام الإنسان المثقل بهموم الدنيا وقد قرر ألا يهتم بها مجددا.
يبدو القارب كبيت مستقل، في الصيف يفرد شراعة ليستظل به، وأثناء برد الشتاء يعزز أغطيته بعباءة من الصوف وشال يلفه حول كتفه، ينام فيه بالليل، يتناول فيه الطعام، ويمد خيطا بين عصاتين في طرفي القارب ليعلق عليه متاعه. ظل الصياد مربوطا برباط خفي لقاربه حتى نهايته: "ورأت العجوز ينقلب مع حركة القارب منكفئا على وجهه" وفضلَّ ساعتها القارب أن يكون مصيره الاختفاء بعد موت صاحبه: 
"أبحرت القوارب ذات ليلة، قطرت القارب الأسود وبه المرأة والولدان، واختفت في عتمة البحيرة الواسعة" ليعود بعد أعوام يحمل جثة الصياد ويعود للاختفاء مرة أخرى. 

2- الكراكيب.
الكراكيب في معناها اللغوي: أشياء قديمة متنوعة من أثاث البيت، غالبًا لا تكون ذات قيمة.. ووفق البساطي في الرواية: "وتكوم تل من الأشياء على ضفة المضيق، ألواح مختلفة الحجم من الخشب والصاج، أوتاد، لفات سلك، حبال وأسياخ حديد، فلقات جذوع نخل، قوالب طوب، قطع خيش وحصير، فوارغ علب وزجاجات، وسبعة أجولة من القوالح تلف الكثير منها لطول تخزينها".
يحتفظ الإنسان بمثل هذه الاشياء من ناحية إمكانية الانتفاع بها مستقبلا. إن بائعة السمك لم تكن تعرف قيمة هذه الأشياء حتى دلها عليها صياد، لقد أخرج من بين كراكيب مقاول الانفار برميلا وسنده إلى ركن السور ورفعها فوقه لتكشف العالم الواسع بعينيها من فوق سور الحوش. واستطاع الصياد أن يبني عشة عند المضيق من خلال كراكيبه التي كوَّمها على مر السنين، ولقد أصبحت الكراكيب مهمة، قابلة للنفع، تعتبر كنز الفقراء، يستطيع الواحد منهم أن يمد يدها خلالها ليُخرج القوالح للتدفئة وإنضاج الطعام. 

3- الصندوق.
يُشير الصندوق إلى بعدين: الأول البعد النفسي الذي يتمثل في سكينة إنسان البحيرة إلى الصندوق وارتباطه الوثيق به، والثاني البعد الاجتماعي الذي يكشف مدى فقر الشخصيات التي تستطيع أن تجمع كل ما يخصها في صندوق واحد وترحل.. ويأتي رمزا كمستودع سر الشخصية، لا يقرأ السر ويكشفه إلا صاحبه، ويحتفظ لنفسه بحقه في الكتمان، وعدم البواح. 
نحن نعرف أن مقاول الأنفار طاف بالبلاد بصندوق يجمع فيه أشياءه من عند أقاربه، وهو كلما أراد شيئا مد يده إلى داخله ليأخذه، ورثته بائعة السمك بعدما هجرها، هي الوحيدة التي تعرف أسراره، ويظل المتلقي يشاهد ما تخرجه هي منه دون أن يتيسر له لينظر بداخله ليستكشفه؛ ليبقى سؤاله: ماذا يخبئ الصندوق؟ وصندوق العجوز لم يكتشفه أحد إلى أن مات، وأحاطه نفس الغموض الذي صاحب ظهور الصياد لأول مرة في البحيرة، ولأنه السر لم تستطع المرأة أن تعرف من خلاله حكاية الصياد، لقد مات الصياد تاركًا صندوقا يحوى ملابس وأوراق احتفظ بها لحين الوصول إلى مكان مجهول، ولأن السر يخص صاحبه بالدرجة الأولى فإن المرأة دفنته في نفس الحفرة التى دفنت فيها جثة الصياد العجوز. 
والصندوق الذي طرحته النوة على الشاطئ ووجدته زوجة جمعة احتفظ به زوجها لنفسه، ظل مجهولا لدى الآخرين، كان في البداية مصدر دهشة وإعجاب لكل من يراه: "الصندوق صغير. انطفأ بريق معدنه. مستطيل الشكل. منمنم بزخارف محفورة وأخرى بارزة. أركانه ومقبضه من العاج. وضعوه على أكفهم، قلبوه، تحسسوا قوائمه الصغيرة النحيلة وأعادوه إليه" لكن المفاجأة أنه يخرج موسيقى هادئة يعقبها كلام لرجل أجنبي؛ مما زاد من دهشتهم وإعجابهم، وتحير جمعة في فهم لغة المتكلم، دفعه ذلك لعرض الصندوق على مدرس اللغة الإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، بالمدارس المجاورة لكن أحد لم يستطع ترجمة كلامه، واقتنع الرجل في النهاية أن الصندوق يخصه، أرسله القدر بصورة مباشرة إليه ليظل تائها في عالم السؤال: ماذا يقول الصندوق؟ أيستطيع أن ينقله من دنيا إلى أخرى إذا وصل إلى مراد الكلام؟ هل يحقق له الثراء؟ وكان جمعة هو الوحيد الذى استطاع أن يغوص في بحار الكلام وحده دون حاجة إلى المترجمين، ويبقى هو المسئول عن مدى صحتها.
إذا كان الصندوق في "صخب البحيرة" قد تجاوز كونه وعاء من خشب أو معدن تحفظ فيه؛ ليصبح وعاء حاويا لأسرار الإنسان، ومصدر لإثارة الاسئلة بداخل المتلقي حتى بعد تمام قراءة النص، فإن صندوق جمعة اختلف بصورة كبيرة عن صندوق الصياد وصندوق مقاول الانفار، فهو لم يكن سر الإنسان المُصان والمجهول عند الكل المعروف لدى صاحبه، لقد تطور صندوقه بصورة واضحة ليصبح فاعلا في أحداث النص لتتغير حياة الرجل وتنقلب:"ومنذ عثرت امرأته على الصندوق تغيرت أحواله. لم يعد جمعة الذي ألفوا أن يروه. 
حكت امرأته فيما بعد أنها لو عرفت أن كل ذلك سيحدث لتركت الصندوق تعيده الأمواج إلى البحر"فارق جمعة الصحاب، وصاحب الصندوق، وجَّه إليه الأسئلة وتلقى منه إجابات حتى أصابه المرض، وعكست هذه الحال مدى ثقافة هذا الإنسان الصغير الذي لا يراه أحد من ضآلة حجمه في المجتمع، إنه الإنسان المنتظر سماع كل حكاوي الصندوق ومعرفة ما مر به من تفاصيل، الإنسان الذي يتألم ويعبر عن آلامه الوجودية بصورة بسيطة جدا لم ترتق إلى تعقيدات الفلاسفة أو بلاغة اللغويين، لقد خاطب صندوقه مرة قائلا: "وما أدراك. مئات السنين. آلاف وأنت في القاع. ما أدراك. كم مرة خرجت فيها؟ كم واحدا رأيت السيف يقطع رقبته؟ كم واحدا رأيته يتقيأ الدم؟" 
وأصبح للصندوق غواية مثل النداهة، أغوت جمعة ففارق الناس، اختلى بصندوقه كثيرا، وجَّه إليه الكلام، خرج مرات كثيرة إلى مشاوير لم يُطلع عليها زوجته، يركب الحمار ويصطحب رفيقه الجديد. هذه المشاوير التي قضاها في الأيام الأخيرة كانت المقدمة الممهدة لرحلته الطويلة التي انطلق فيها وحده.. والتمرد الذي أحدثه الصندوق في نفسه تشكل في التعبير عن آلامه، في البحث عن مترجم للمعاني، في المشي إلى أماكن مجهولة، لتأتي الظاهرة الطبيعية التي نشهدها في البحيرة لتتحقق في جمعة، إن التغير الكلي الذي طرأ على حياته أشبه ما يكون بالنوة التي تقلب جوف البحيرة فيتبدل الحال غير الحال.
إن صندوق جمعة صاحب الموسيقى الهادئة والصوت الحزين الذي قص نبأه لنا البساطي يحيلنا بصورة طبيعية إلى الأغاني المبهمة التى قيلت بلغة مغايرة في جوف التكية بـ"ملحمة الحرافيش – نجيب محفوظ)" والجلوس تحت أسوارها من قبل فتوات عائلة عاشور الناجي للاستماع لهذه الأغاني والأناشيد التي طالما جهلوا مرادها، ولم يقف هذا الابهام حائلا عن التواصل مع المعنى، وشكلت الأغاني لهم مصدر إلهام يدفعهم في بعض الأحيان ناحية تحقيق العدل والأمان.
واستسلم جمعة لصوته وغواية النداهة في شكلها الجديد "الصندوق" طاف بالبلاد لمدة طويلة، لم يحك عنها الغريب الذي جاء معه في اللحظات الأخيرة إلى البيت بعدما فقد الصندوق وأحس بقرب الأجل ففضل أن يموت بداره: "تعود إلى جلستها. وسيبدو لها كل ما يحدث غريبا. حتى جمعة نفسه كأنها لم تعرفه أبدا" ويظل الصندوق مصدر الغرابة!!
ويبقى أن نقول أنه إذا كان الصندوق محل الأسرار، وفي يد صاحبه قفله، فإن الكراكيب متاحة لنظر الجميع، وإذا كان الصندوق رمز الاستقرار أيضا والسكن، فإن الكراكيب رمز التشتت، فكيف جمع إنسان البحيرة بين الصندوق والكراكيب؟! ربما هي النفس الإنسانية!